الشيء شعرياً

ثقافة 2018/11/09
...

ياسين النصير
كيف يمكنك أن تجعل الشيء شعرياً؟. أي ان تحول الشيء من ماديته الشيئية إلى لغة،  قد يبدو السؤال من البداهة ما يحمل ضمناً جوابه، وهو ان كل الأشياء إذا ما انتظمت داخلياً ووضعت في مكانها، وعبر عنها بما يكفيها من معنى، أصبحت شعرية، فالاشياء كما يقول هايدغر "تظهر وتبزغ انطلاقاً من ذاتها" : أي من قدرتها على التنظيم، كي تؤدي الغرض المناط بها، لابد وأن تكون لها كينونة. والأشياء في وجودها العملي؛ تلك التي تنتج باليد البشرية، أو بالآلة الصناعية تعني أن عمل الإنسان فيها يضمنها طاقة جمالية، فطاقة الشيء مقترنة بالعمل، ليس هو الشيء المعطى طبيعياً.ما يجعلنا نطمئن إلى جماليته، بل الشيء الذي تمارس اليد عليه فعلها.
 فالشعرية نظام جمالي يرتبط بعمل الذاكرة واليد والعقل، وتضفي العلاقة الاجتماعية على الأشياء، سواء أكانت علاقة فردية أم جماعية ، طاقة من التأمل، وسواء اشتغلنا عليها أو اشركناها في عملنا، تتأسس لها مزايا وخصائص تحمل ممارسة اجتماعية، الشعرية هي قدرة الأشياء على أن تكون جزءاً فاعلاً من الحياة اليومية،  ويبقى السؤال الفلسفي الذي اقامه هايدغر على الأشياء قائماً، وهو" السؤال عن الشيء"، سواء من  حيث وجوده 
أوعلاقته. 
 
مايرافقنا من أشياء
 بمثل هذه الأطروحات الفلسفية يتولد إحساس مشترك عند اختيارنا للأشياء، عند اقتنائها أو التفكر بها، أي جعلها قائمة بذاتها في فضاء يكتمل بوجودها. فالكثير من قاعات المعروضات تضع أشياء لتملأ بها مسافاتها، وعند النظر فيها، تجد ثمة حواراً قائماً عبر الصمت  بين الاشياء والمسافة، قد يقترب بعضنا منها حيث مشاهدة معرض فني، لكنها، وهي شاخصة في فراغها الممتلئ تكمل عملية التلقي. إن الأشياء كيانات أساسية في المعرفة.وربما تجاوزت ذلك، لتصبح عوامل تحفيز واثارة وتنشيط، بعض الروائيين لا يبدأ الكتابة دون أن يضع تفاحة قديمة في درج مكتبه يشمها بين آونة وأخرى،"هكسلي" فالرائحة القديمة تعيد للذاكرة زمنا متخثرا في الذاكرة، بعض الكتاب لايكتب إلا واقفا "كافكا" وبكامل قيافته لاعتقاده أن الكتابة نوع من العبادة لا يصح ان تتعبد وأنت جالس، آخرون يعتقدون أنهم بممارسة نوع من الرياضة العقلية بداية يكونوا مستعدين للعمل، أشياء ترافق الرسام وهو يحمل "اسكيجات" تخطيط لموضوع يتشكل عبر الرؤية، فنانون تتحرك ايديهم في فضائها وهم يكورون قطع طين وهمية لتماثيل تتشكل في ادمغتهم،"فيدياس" هذا الذي يتمتم خلال النوم كالجواهري، تجده وهو مغمض العينين تتسلل يده لكتابة فكرة أو بيت شعر، ما من أحد منا لا ترافقه عملية عشوائية راسخة في اللاوعي كبداية  للأفكار والممارسات، وربما ثمة ألعاب ذهنية نمارسها دون أن ندري، كل شيء يرافق مسيرة المبدع يكتسب من خلاله شعريته، وإلا ما معنى ان ترافق بعض الأشياء كتابا ومهندسين وفنانين وعلماء،وكأنها جزء من بنيتهم الذهنية والعملية،  فالبداهة تقود أي منا للتميز بين ما ينفع من الأشياء وما لا ينفع، ولكن حقيقة الشيء ماديته، مكوناته شيء آخر، بمعنى أنها جزء من بنيتنا التي لاتبان
 دائما للعيان. 
 
توظيف الشيء
فالشيء ليس هو إلا في وضعه الزماني والمكاني، لا يتعامل الشيء بمعزل عن علاقاته مع الآخر، وعندما نضعه ضمن نسق  ترتبط مفرداته بعلاقات معينة تؤدي لتأليف تكوين شعري جمالي. حقيقة الشيء أنه يتغير دلاليا كلما تغير زمنه وموضعه، وهذه الديمومة لحركته تجعل منه غير قابل لأن يكون حسب ما نريد منه فقط، بل حسب امكانياته بأن يكون هنا وليس هناك.
 الشيء يفلت من مواصفات تفرض عليه، كثيرا ما نرى عدم الإنسجام بين الأشياء عندما تتشكل في بنية نحتية أو تكوين مكاني، وعندما تتغير مواضعتها تكتسب مواصفات جديدة تمليها عليها طبيعة الموضعة الجديدة، كل مقتني الأشياء القديمة يخططون لان يضعوها في أمكنة تضفي عليها نوعا من تجديد ذاتها، هذه المقتنيات لا تعيش في أية صالة قبل ان تعيش في ذاكرة مقتنيها، فالطاولة التي أمامنا لا يمكن أن تكون مائدة للطعام فقط ،عندئذ ستكون محددة بوظيفتها الآنية، بحيث ان كل ما ينتج عنها يعود بالضرورة إلى الوظيفة التي ارتبطت بها، وهي الطعام. ولكن عندما تصبح الطاولة منصة لاجتماع سياسي، أو ثقافي، أو أسري، وتناقش عليها مواضيع خاصة ضمن حقل الاختصاص، ستكتسب شعرية أخرى، وربما تتغير بعد ذلك النظرة إلى مكوناتها، وستكون موضعة خارجية يشار إليها أنها شهدت اجتماعا قيل فيه كذا وكذا، إن هذا المستوى من الوعي العقلي المباشر للأشياء يتحدد بشعرية الوظيفة التي
 انيطت بها.
 الطاولة في معيارجمالي آخر ستكون موضوعا لتشريحها بنيويا، أي التعرف على فنيتها وصناعتها،ونوعية المادة المستعملة فيها،وجمالية الحرفة، وحجمها الملائم، وتكوينها بما يناسب الجلوس،  ولذلك فالشعرية تعنى قدرة الشيء على ملاءمة الفعل. الأشياء الساكنة، الأشياء الجامدة لا تمنح القصيدة شعرية، بقدر ما تعطلها ، ربما تعيننا بعض الفلسفات خاصة الظاهراتية من أنها تحكم العلاقة في الشيء ضمن آنيته الزمانية والمكانية، فتكون الرؤية له كافية لاستخلاص كلمة
 معبرة عنه.
 ولكن حتى هذه الرؤية اللحظوية الفاعلة غير مستقرة، وقد تكون مغايرة لطبيعة الشيء عندما يوضع في سياق آخر، ومع ذلك فهذه احدى اللحظات التي يملك للشاعر فيها رؤية شعرية للأشياء التي
يفكر فيها.