بوتوسي .. أولى مدن الرأسماليَّة

بانوراما 2019/07/27
...

ترجمة وإعداد: مي اسماعيل 
حوّل اكتشاف جبل من خام الفضة (وطريقة جديدة لاستخراجه) قرية الإنكا الصغيرة تلك الى مركز اقتصادي بارز في الامبراطورية الإسبانية، كانت في حينها أكبر من لندن أو ميلانو أو إشبيلية.. ولكن الفضة نضبت ذات يوم...أهدى ملك اسبانيا فيليب الثاني سنة 1561 درعاً مزخرفاً الى مدينة بوتوسي نُقِشَ عليه: “بالنسبة للإمبراطور القوي وللملك الحكيم؛ يمكن لجبل الفضة النبيل هذا أن يغزو العالم”. كان فيليب يعي تماماً قيمة الثروات الكبيرة الكامنة تحت تلك القرية الصغيرة في جبال الأنديز، التي صارت اليوم جزءاً من بوليفيا الحديثة. 
وإذ لم يعثر المحتلون الإسبان على مدينة الذهب الاسطورية “ألدورادو”؛ فقد وجدوا بالفعل جبلاً من الفضة، كان كبيراً لحدٍ حوّل قرية صغيرة منعزلة يقطنها شعب الإنكا الى رابع أكبر مدينة في العالم المسيحي خلال سبعين سنة فقط. موّل جبل الفضة قيام أكثر مجمّع صناعي تطوراً في عصره، وأظهر مقاييس الثروات الاقتصادية للعالم؛ من الصين الى غرب أوروبا. 
سكن المدينة في أوج تطورها (مطلع القرن السابع عشر) نحو 160 ألف شخص من سكان بيرو الأصليين، وعبيد من أفريقيا، ومستوطنون إسبان، ليعملوا في المناجم المحيطة بالمدينة. وهو عدد فاق سكان لندن وميلانو واشبيلية في ذلك الحين. في الاندفاع الأول لاستغلال الفضة؛ احتل المستوطنون الإسبان الأوائل منازل السكان المحليين، متخلين عن الشبكة الحضرية الاستعمارية التقليدية. وأقاموا مساكن مؤقتة تحولت فيما بعد الى خلطة فوضوية غير متجانسة من القصور الباذخة والأكواخ المتواضعة؛ تتخللها دور المقامرة والمسارح والورش والكنائس. 
في أعالي الجبال الحمراء المتربة أحاط بالمدينة اثنان وعشرون سداً، تقوم بتشغيل 140 مطحنة تفتت خام الفضة قبل أن يجري صبّه في قوالب ترسل لاحقاً الى أول مصنع استعماري إسباني لسك العملة في الأميركيتين. جذبت الثروة الفنانين والأكاديميين ورجال الدين والتجار وفتيات السوء، وأغراهم غموض مرتفعات “التيبلانو- Altiplano” الصوفي. وعلى شعار المدينة كُتِبت كلمات: “أنا بوتوسي الغنية، كنز العالم، مَلكة جميع الجبال وموضع حسد الملوك”؛ واسهمت العملات الفضية التي انسابت من المدينة بجعل إسبانيا القوة العالمية العظمى لعصرها.
 
“جبل يأكل الرجال”
يقول الكاتب جاك ويذرفورد: “كانت بوتوسي أولى مدن الرأسمالية؛ لأنها قدمت العامل الأساسي للرأسمالية وهو المال . انتجت المدينة المال الذي غيّر التركيبة الاقتصادية للعالم دون رجعة”. تصاعد إنتاج الفضة في بوتوسي بشكل انفجاري بداية عقد 1570، بعد اكتشاف عمليات مزجها بالزئبق لاستخلاصها من المعدن الخام المسُتخرج، وتزامن ذلك بفرض نظام العمالة القسرية المعروف باسم- “ميتا- mita”. اضطر سكان بوليفيا الأصليون على محيط مئات الكيلومترات للسفر الى بوتوسي للعمل في المناجم، وجرى تكليفهم بمهمة تكسر الظهر؛ وهي نقل حصة يومية قدرها 25 حقيبة من خام الفضة (تزن الواحدة منها 45 كغم) الى سطح الأرض. كانت التهابات الجهاز التنفسي والرئة منتشرة جداً؛ بسبب فرق درجات الحرارة والرطوبة بين أعماق المنجم والسطح. وهذا ما علّق عليه أحد رؤساء العمل قائلاً: “إذا دخل عشرون هندياً موفور الصحة العمل يوم الاثنين؛ فسيكون نصفهم تقريباً مرضى بحلول السبت”. 
تسبب نظام “ميتا” الذي فرضه “توليدو” نائب ملك إسبانيا في منطقة “بيرو العليا” بإنهيار ديموغرافي؛ اكتسبت على أثره منطقة بوتوسي اسم: “الجبل الذي يأكل الرجال”. كتب أحد المؤرخين الإسبان عن مجموعة من سبعة آلاف بيروفي اقتيدوا من منازلهم البعيدة للعمل في المناجم قائلاً: “لم يعد من هؤلاء إلا نحو ألفي شخص؛ بعدما مات البعض وقرر آخرون البقاء في بوتوسي أو القرى القريبة، لإنهم لا يملكون دواباً يركبونها لرحلة العودة”.
 
سكان لا جذور لهم 
 من بين القوانين الأخرى التي فرضها “توليدو” هنا (بجانب “ميتا”)؛ كانت محاولاته الجادة الأولى لتنظيم تلك المدينة “انفجارية” النمو. جرى تجفيف المستنقعات المحيطة بها لتوفير فضاءات إضافية للتعمير، وقُسّمت بوتوسي الى أحياء للإسبان وأخرى للسكان المحليين، وتأسيس نظام معقد من السدود وقنوات التصريف لملء خمس بحيرات صناعية تغذي طواحين الفضة؛ وهي إنجازات غير عادية للهندسة المائية تضمن إمدادات ثابتة من الفضة. بفضل خام الفضة الذي يستخرجه العمال المحليون والعبيد الأفارقة صار العديد من الإسبان واسعي الثراء؛ حتى كادوا.. “يثملون بمحض روائح الفضة”. سجل أحد كتّاب المرحلة ان سكان المدينة..”غذوا مثل تلك الأفكار المنتشية”؛ ممثلين برئيس إدارة المناجم دومينيغو بيلتران؛ الذي قيل أنه ادعى لنفسه موقعاً في مصاف أشهر شخصيات العالم، قائلاً: “البابا في روما، والملك في إسبانيا، ودومينيغو بيلتران في بوتوسي..”.   
لم تكن المدينة مهلكة لآلاف العمال الذين ماتوا في المناجم فحسب؛ فرغم كل بهرجتها؛ ابتليت بوتوسي بنزاعات قاتلة بين أصحاب المناجم الإسبان المتصارعين، والكوارث الطبيعية ومخاطر الحياة على ارتفاع أربعة آلاف متر فوق مستوى سطح البحر (حيث لا ينمو إلا القليل من المزروعات). ولد أول صبي إسباني تجاوز محنة الولادة في بوتوسي سنة 1584؛ بعد نحو أربعين سنة من تأسيس المدينة. وفي سنة 1624 إنجرفت أجزاء كبيرة من الحي البيروفي حينما إنهار سد “سان سلفادور”؛ مسبباً دماراً هائلاً وموت نحو مئتي شخص. لم يجرِ منح تأشيرات السفر الى “التيبلانو جبال الأنديز” إلا بصعوبة؛ لكن العديد من الإسبان بحثوا عن العمل على ظهر سفن تجارية؛ ثم هجروا أعمالهم عند أول فرصة ممكنة. كتب أحد التجار عن ذلك قائلاً: “في كل ميناء ترسو عنده السفن يقفز البحارة هاربين، تاركين خلفهم مهام ومسؤوليات، أملاً في الحرية والثراء غير المؤكد الذين تعد بهما بوتوسي ومناطق تعدين أخرى”. وعلّق أحد سكان المدينة قائلا: “بدا وكأن الأرض تمتلئ بأشخاص لا جذور لهم؛ يأتون كل سنة من إسبانيا والمناطق المحيطة، وكأن المكان نقطة توقف لجميع الفقراء..”. 
 
“المعادن لا تولد من جديد..”
بدأ القادمون الجدد بالتصادم مع طبقة الإسبان الحاكمين الذين جاؤوا للسيطرة على المدينة، فقامت حروب عصابات شرسة مات فيها الآلاف؛ أججتها الثرثرة والشائعات سريعة الانتقال. بحلول عقد سنوات 1620 كانت أساطير الدورادو والثراء الخرافي قد بدأت تتداعى، وتفاقم ذلك التداعي بسبب البنية التحتية المتدهورة، وهبوط العوائد والتوترات الاجتماعية. كتب مؤرخ يقول: “المعادن لا تولد من جديد ولا تنمو ثانية. جرى استخراج كمية كبيرة من الخام لمدة سبعين عاماً؛ فلا عجب ان الخام الجيد قد استنفد، وكل الموارد تضاءلت”. تناقصت أعداد السكان من 160 ألفاً (في قمة ازدهار المدينة) الى نحو ستين ألفاً عند نهاية القرن السابع عشر. كتب أحد السكان متأملاً: “كل شيء انتهى؛ كل شيء هو ألم وكرب وبكاء وتنهد. كان هذا بلا شك أحد أكبر الإنحدارات على الإطلاق..”. في نهاية المطاف باتت العملات الفضية التي أنتجتها بوتوسي (وانهمرت على خزائن الصين في عهد حكم سلالة منغ) عاملاً لزيادة التضخم المالي؛ مما قلل أرباح أعمال التعدين فيها، وخفض سعر الفضة حول العالم. لكن فضة بوتوسي كانت قد غيرت العالم الى الأبد؛ وفعّلت تبادل العبيد والمنسوجات والتوابل وسلع غيرها حول العالم. 
ناقش الاقتصادي الاسكتلندي آدم سميث في كتابه الشهير “ثروة الأمم” المنشور سنة  1776حالة مدينة بوتوسي؛ وسجّل أنها اسهمت بتمويل حروب الامبراطورية الإسبانية مع بريطانيا وهولندا وفرنسا، وساعدتهم بمواجهة العثمانيين. حضّت فضة أميركا فيليب الرابع ملك إسبانيا على القول: “ان قوة وأمان مملكتي تكمن في الفضة”. لكن إدعاء لا محدودية الثراء القادم من أميركا كان أمراً مُدمِّراً؛ إذ غذّى مستويات من الإنفاق عند الملوك الإسبان لا يمكن إدامتها. 
 
جسور من الفضة والعظام
بقيت بوتوسي في وضع مركز للتعدين على مقياس صغير حتى تحريرها على يد “سيمون بوليفار-Simón Bolívar “ (عسكري وسياسي فنزويلي مؤسس ورئيس كولومبيا الكبرى، من أبرز الشخصيات التي لعبت دوراً مهماً لتحرير عدد من دول أميركا اللاتينية) سنة 1825؛ ولم تعد ثرواتها السابقة موجودة إلا في الأساطير والأدبيات. جاء على لسان دون كيشوت دي لا مانشا تعبير: “ان تُساوي بوتوسي..” (أي- ما قيمته عملة بوتوسي فضية)؛ وهذا التعبير ما زال مستخدماً في إسبانيا حتى اليوم. المدينة أيضاً رمز مهم للحركات الثورية بأميركا اللاتينية؛ التي ازدادت شهرتها بتضمينها في كتاب الصحفي والكاتب والشاعر إدواردو غاليانو: “الأوردة المفتوحة لأميركا اللاتينية” من اوروغواي. بقيت رواية غاليانو الغاضبة عن ماضي بوتوسي النسخة الأكثر شهرة لتاريخ المدينة؛ متحدثاً عن موت ثمانية ملايين بيروفي في المناجم المهجورة الغارقة حول المدينة. يقول بعض سكان المدينة (نقلاً عن كتاب غاليانو): “كان يمكن بناء جسر من الفضة من بوتوسي الى مدريد بكميات الفضة التي استخرجت من هنا؛ وآخر من عظام الذين ماتوا وهم يستخرجون تلك الفضة”؛ رغم غياب الأدلة الحقيقية على أعمال إبادة بمثل ذلك الحجم!   
 
مدينة تتداعى من الداخل
لا توجد إحصائيات موثوقة عن عدد الوفيات خلال اعمال التعدين وما صاحبها من أحداث، وفقا لما يرى د.إجناسيو غونزاليس كاساسنوفاس (خبير التاريخ الاجتماعي لبوتوسي)، الذي يقول: “بالتأكيد نقدر أعداد الوفيات بعدد أقل بكثير من الثمانية ملايين التي تحدث عنها غاليانو”. لكنه أكثر تأكداً حول تأثير المدينة على العالم: “عندما كانت القوى الأوروبية في مرحلة توسع، اقتصادياً وتقنياً؛ يسّرت بوتوسي عولمة اقتصاد العالم. وصلت فضة بوتوسي الى اشبيلية، وروان وكاليه، وأمستردام وماكاو”. 
لم تعد بوتوسي الحديثة سوى قشرة لكيانها السابق، ورغم أن الجبل ما زال يرتفع فوق المدينة، لكنها تتداعى من الداخل، بعدما فقدت استقرارها نتيجة مئات الكيلومترات من أنفاق المناجم التي أُقيمت خلال السنوات الخمسمئة التي جرى استغلالها فيها. وأخيراً إنهار الجزء الأعلى من قمة الجبل سنة 2011. 
ما زالت عمليات التعدين تجري لاستخراج الزنك والقصدير، وقد يبحث الأطفال في أكوام الخام عن بقايا الفضة التي جعلت مدينتهم يوماً بالغة الثراء. وما زال العديد من البيروفيين العاملين في المناجم يعانون ذات الأمراض التي عانى منها من ماتوا على أيدي الإسبان؛ بعدما إستحالت رئاتهم سواداً بفعل الأتربة، وقد دخلوا المناجم بعمر صغير كما فعل آباؤهم.. 
يغطي فقر بوتوسي الحديثة وخرابها قصة المدينة الاستعمارية التي كانت ذات يوم؛ التي تحولت قصورها الفاخرة الى مطاعم ومحال حلاقة وطبابة أسنان. لكن جبل الثراء ما زال هناك؛ عند الأنديز فوق خط الأشجار؛ وقد انتشرت فضته بين حطام سفن إسطول الأرمادا الإسبانية وصانعي جواهر القادة وما تبقى من كنوز سلالة مينغ؛ إذ لا يكاد يوجد مكان في العالم لم تمسسه فضة بوتوسي!
 
باتريك غرينفيلد/الغارديان البريطانية