ساهموا بإطفاء نار أوقدت للحرب

الثانية والثالثة 2019/07/27
...

الدكتور علي يوسف الشكري
قبل انتهاء القرن الماضي، والشروع بالقرن القائم، لم يكن أحد من الشعوب العربية أو حتى شعوب المنطقة قادراً على التعبير عن رأيه حيال قضايا الوطن والمواطن، لكن الكل يقف يهلل ويهتف بحياة الحاكم، فادياً إياه بدمه والموت من أجل حياته، فالشعب ما خُلق إلا بقصد حياة الدكتاتور ورفاهيته، كيف لا والقائد مؤسسٌ، وبانٍ، ومهندسٌ، ومدافعٌ، وذائدٌ، وسارقٌ وناهبٌ، ومذلٌ، وقاتلٌ، ومهجّرٌ، ومقسّمٌ ومُفّرقٌ......، والشعوب قطيعٌ تائهٌ في خياراته، تابعٌ في طاعته.
على مدى أكثر من نصف قرن، بل قرن من الزمان والمحتل الأجنبي ينخرُ بالأوطان سلباً ونهباً وتمزيقاً، وأداته عملاؤه ممن نصبهم حكاماً على الشعوب المُجهّلة قسراً. فسياسة التجهيل والتبعية كانت سياسة ممنهجة بدونها لن ينجح الأجنبي في تنفيذ سياسته، ولن يكون الخائن رأساً متحكماً بالشعوب المقهورة. وكان الانقلاب أداة الإطاحة بمن عصى أو خالف أو ولدت عنده صحوة الضمير، فما أنْ يطاح بمستبد خائن إلا ويحل محله مستبد أكبر، بلحاظ أنَّ الشعوب المقهورة قد تسأم المستبد فتسعى لاستبداله بمستبدٍ جديدٍ، ويقيناً انَّ الأجنبي لن يقف حائلاً أمام تطلعات ورغبات الشعوب الساعية جاهدة للتجديد بشرط أنْ ينتقل العرش لمستبدٍ أطغى وأكثر طاعة له لا لشعبه.
وبالقطع إنَّ سياسة الإذلال والسرقة الهادئة المستقرة الساكنة لم تكن كافية بذاتها لتنويم الشعوب أو قتلها، فشعوب الإقليم والعربية منها تحديداً لا تستحق الحياة عندهم، وهي ما خُلقت إلا لتكون قرابين الأسياد أو خدامهم. فسياسة السيد المستبد تقتضي الأضاحي ولا أضاحي أبخس ثمناً من الشعوب العربية، فتجدها حطب نيران المحتل في حروبه الخارجية، ووقود نيران حركات التحرر أو الحركات التي ولدت لديها الصحوة لتنتفض على الواقع، وإلا فما تفسير حرب الثماني سنوات التي شنها النظام السابق على الجمهورية الإسلاميَّة؟ ولماذا غُزيت الكويت وشُرِّدَ أهلها الآمنون؟ ولماذا راحت العربية السعودية تدفع المليارات فواتير الذود عن تهديدها المخطط؟ ولماذا جوع شعب العراق لعقد ونصف من الزمان، بعد أنْ استمرت سياسة قتله على مدى نصف قرن من الزمان؟ ولماذا اليمن الشطران أصبحت أشطراً وليس يمناً موحداً؟ وراحت الحركات المنحرفة تعبث بأمن البلاد العربية، مرة قاعدة وثانية نصرة وثالثة داعش.. واليوم التلويح بجيل ثالث ثم رابع فخامس والقائمة تمتد.
تلوح اليوم في الأفق نيران حرب جديدة إنْ اندلعت لن تأتي على العراق ولكن على الإقليم العربي ودول الجوار، فلن تكون الحرب الجديدة محدودة الإقليم والأثر، فالقيادة الإيرانية ليست كالعراقية الراحلة، لم ترتم في أحضان الأجنبي ولم تُسلم زمام قيادتها لفرد تتلاقفه الأهواء وتتلاعب القرارات الوافدة برأسه. وإذا سقط العراق فريسة الاحتلال بساعات محدودة فإيران قادرة على المقاومة الطويلة بل والمواجهة التي ستأتي نيرانها على العديد ممن اعتقد أنه سيكون في منأى عن نيران الحرب، إذ سيكون الإقليم والبحر العربي - الشرق أوسطي ساحة للمواجهة، وستكون الخزينة العربية هي المسؤولة عن تحمل تكاليفها الباهظة. 
وربما استذكر البعض ممن فكر أن الحرب ستأتي على إيران وستصيبها بمقتل، تجربة العراق سنة 2003 ويقيناً أن من فكر بهذه الطريقة ساذجٌ في تفكيره محدودٌ في أفقه، فإيران لم تُسلم سلاحها كما أفرغت الترسانة العراقية على مدى ثلاث عشرة سنة، وربما يغفل البعض أنَّ الشعب الإيراني على مدى تاريخه يلتف حول
 قيادته زمن الأزمة ويتناسى خلافاته البينيَّة المحليَّة، بخلاف سياسات الراحل التي قسمت الشعب العراقي شيعاً وأطيافاً ومللاً ونحلاً. كما أنَّ الراحل كان يعتمدُ سياسة التصعيد الإعلامي من دون أساس سوى التسريبات الكاذبة والمعلومات المضللة والإيحاء بارتعاد الغير من تصريحاته، فضلاً عن الصوت الهادر المضلل الذي كان يخرج مرغماً مؤيداً لسياساته الهوجاء وإلا فالعصا لمن عصى. في حين أنَّ التجربة أثبتت أن القول الإيراني يطابق غالب الفعل، ولن تأتي سياسة التجويع بآثارها كاملة على الشعب الإيراني بلحاظ سياسة الاكتفاء الذاتي التي اعتمدتها إيران مذ نجحت الثورة الإسلامية سنة 1979. لكن ذلك لا يعني قطعاً أنَّ التشديد الاقتصادي لم ينتج أثره على الاقتصاد أو الشعب الإيراني، فآثار هذا الحصار بل التشديد فيه بدت واضحة على سعر العملة المحلية ومستوى الرفاهية الاقتصادية فضلاً عن ارتفاع معدلات البطالة ونسب الفقر.
والمهم في كل ذلك أين سيكون العراق من المواجهة لا قدر الله؟ وهل سيكون في منأى عن الآثار الحربية والاقتصادية؟ وكم من المدة سيكون قادراً على توفير مستلزمات شعبه المادية والسوقية إذا ما امتدت آثار المواجهة إلى مضيق هرمز، وهي ممتدة حتماً؟ وهل سيكون قادراً على حماية حدوده وجبهته الداخلية من تحركات داعش وجيله الجديد؟ وهل يأمن من عدم تحرك من هلل ودعا ونادى بإيقاد نار الحرب معتقداً أن هذه النيران ستأتي على القابضين الجدد على السلطة وستعود عقارب الحكم إلى الخلف، فيطاح بالجديد ويعود الراحل حاكماً متحكماً؟
لقد بدأت الدبلوماسية العراقية ومنذ وقت مبكر بالتحرك لتطويق نيران حرب إذا أوقدت ستأتي آثارها على الجميع العراقي من دون استثناء وعلى الجوار العربي والإقليمي، فتحولت بغداد إلى وسيطة وسطية، تحاول جاهدة جمع المختلفين المصعدين، وكان خطابها في القمة العربية الإسلامية يدل على موقفها المتعقل وينم عن عمق ووعي بآثار الحرب لو قامت. ويقيناً أن ثمن هذه الدبلوماسية ووسطية الخطاب لن يمر مرور الكرام العابر، فالهجوم شُن على العراق وهو يحتضن المتخاصمين ويقود الدبلوماسية المتعقلة الداعية للحوار ونزع فتيل الأزمة وقبل إلقاء خطابه في العربية السعودية. ويقيناً أن سهام النقد والهجوم المبرر بالنسبة للمهاجم لم تكن مستغربة، فهي أقلام لم تكن تتعدى الرخيصة التي اعتاشت على الأزمة أو تكسبت من دافعي الغلة، أو كانت مدفوعة بهاجس الكراهية وانتظار الموقف للانقضاض والانتقاص، ويقيناً أن استقلال الموقف العراقي، ودافعية المصلحة الوطنية العراقية العليا، وتجنيب البلاد آثار الحرب بتفريعاتها لم يكن يروق للمنتقد الذي سال قلمه مهاجماً ومنتقداً ومتهماً، فهو يسعى لعراق ضعيف تابع بقراره، من هنا راح يتهم الموقف العراقي بالتبعية والخضوع للأجندات الخارجية، وهو التابع واقعاً.
لقد راحت نذر الحرب لا سمح الله تلوح بالأفق ولن يكون فيها المنتصر، لكن الجميع متضررٌ، فالحرب لن تكون حرب جيوش متماسة، ولن يغامر أحدٌ بحرب بريَّة، لكنها حرب صواريخ وقذائف عابرة للقارات والبلاد، ويقيناً أن آثارها ستمتد إلى البحر والمضيق والمنشأة والهدف العسكري والمدني، ومن أجل ذلك ستفلس بلدان وتفرغ خزائن ويقدم أشخاص قرابين حرب لا كاسب فيها حتى من جمع حطبها ووفر وقودها واعتقد أنه سيقف مراقباً مشاهداً مترقباً وله خواتيم النتائج.
وفي هذه المعادلة سيكون العراق الخاسر الأكبر، فلا حدوده آمنة، ولا اقتصاده قادر على مقاومة الصدمة، ولا جبهته الداخلية متماسكة، ولا قادته السياسيين قرارهم موحد، والشعب هو الأكثر خسارة، فالسنوات الماضية منذ سقوط الراحل وتولي القادم الجديد لم تنجح الدولة في تقديم الخدمة أو خفض معدلات البطالة أو نسب الفقر، أما العشوائيات فراحت تفترس المدينة العراقية، فلم تترك مدينة إلا وامتدت إليها، وراح تجار الأزمة يتخذون من العشوائيات تجارة رائجة متخذين من الفقير المعدم ذريعة للسكوت على التجاوز على أراضي الدولة، وسقطت المناطق الخضراء فريسة لمن وجد فيها وسيلة للكسب السريع على حساب الوطن والمواطن، وبالتأكيد انَّ المؤسسة الرسمية والقائم على القرار هو الأكثر تقصيراً، فضعف الدولة، وانشغال متخذ القرار بمصالحه الشخصية والحزبية، وتقديم الطائفة والقومية على الوطن.. كلها أسباب فتحت الباب على مصراعيه لحلول المغتصب والسارق وآكل السحت الحرام محل الدولة في التصدي والادعاء بالمساهمة في حل الأزمة.
في البلدان الأخرى توحد الأزمة المختلفين من أجل المصلحة العليا للوطن، فتؤجل الخلافات وترحل الصراعات الحزبية ويتم التجاوز عن الإساءة، فالوطن مقدم على كل أولوية، فلا أغلى من الوطن وأسمى من استقلاله ولا أثمن من حرية شعبه. وعلى الفرقاء العراقيين لا الشركاء التسامي عن الصغائر فالعراق أسمى مكانة من مصالحهم، وشعبه أغلى من انتماءاتهم الثانوية، وسيذكر التاريخ من والى وتسامى وتناسى ودافع عن الوطن، مثلما سيذكر من باع وخان وحرض وتآمر، فهو إلى زوال والعراق باقٍ إلى ما شاء الله.