توزيع الثروة

الصفحة الاخيرة 2018/11/09
...

حسن العاني 
ربَّما كنا أقرب شيء، إلى كائنات بشريَّة قادمة من أعماق التاريخ البعيد، لم نعرف معنى التطور أو لم تطرق الحضارة أبوابنا، هكذا نحن، أربعة عجائز عبرنا السن القانونية للبقاء على قيد الحياة، لم نتغير أبداً في بلد تغيّر فيه هطول المطر، وتغيرت فيه تسريحة الشعر وأخلاق البنات.. ما زلنا نجلس في المقهى ذاتها نلعب الدومينو، ولا نلعب غير (الطيره)، وبخلاف ذلك لا نعرف أي شيء، ولا نميز بين حلف الأطلسي وحلف الناتو، كما لا نميز بين (لا تصلح للنشر)، همُّنا الوحيد في الدنيا هو هذه اللعبة الخبيثة التي تدفعك الى قتل (الدوشش او الدوبيش) في يدك، أو أي (زوج) ثقيل على المعدة، ثم تحوّل قتلاك الى الخصم وأنت في قمة السعادة، تماماً كما يتنكر السياسي القاتل لقتلاه ويلقي التهمة على خصومه، ومعذرة للقراء الكرام، وخاصة فصيل النسوان إذا كانوا يجهلون
 قوانين الطيره!
قبل بضعة أشهر، تشكلّت منضدة أخرى الى جانب منضدتنا، يرتادها 6 أشخاص من رجال المحلة، نعرفهم واحداً واحداً، كانوا جميعاً من أفراد الأمن في ظل النظام السابق بدرجات دنيا، دفعتهم الحاجة الى هذه الوظيفة مثلما دفعت غيرهم على مر التاريخين الحديث والمعاصر للعراق... وكأية قضية أخرى ما كان الأمر يعنينا، لولا إنهم بسبب انضواء كل واحد منهم تحت راية حزبيَّة تختلف عن الرايات الأخرى، كانوا يدافعون بحماسة عن ولاءاتهم الجديدة، ويناقشون معتقداتهم بصوت عالٍ يشوش علينا، حتى نفقد التركيز وننسى مهمة القتل وترحيل القتلى الى الخصم، وهذا ما حدث الشهر الماضي، فقد بلغ الخلاف بينهم حول أسلوب توزيع الثروات التي عجز عباقرة الدستور عن حلها، الى حد العياط والشتائم، وأحياناً استعمال الأيادي، قال أحدهم: إنَّ أفضل طريقة لتوزيع الثروات بين (المحفظات)، هو أن تكون بالتساوي، ورد عليه الآخر: من رأيي أنْ تأخذ كل (محفظة) حاجتها، واعترض ثالث قائلاً: هذا ظلم يا سيدي الفاضل، فالثروة الموجودة في كل (محفظة) هي ملك (للمحفظة) نفسها، وتساءل رابع وقد ركب الغضب نبرته: وماذا تفعل (المحفظة) الخالية من الثروة؟ وعلق صوت ساخراً: في هذه الحالة تستطيع (المحفظة) الفقيرة أنْ تعمل بعد الدوام عند (المحفظة) الغنية!! وحين هدأت ضحكاتهم الصاخبة قال أحدهم: من واجب الغنية مساعدة الفقيرة، وتدخل صوتٌ رقيق معترضاً: يا جماعة.. هذا يجعل (المحفظات) وكأنها دول مستقلة، في حين نحن بلد واحد برغم تعدد (محفظاتنا)، وانزعج أحدهم انزعاجاً عظيماً وقال: جنابك تدعو الى دكتاتورية المركز، وتريد أنْ تتصرف (محفظة) بغداد بأموال (المحفظات) الأخرى، واعترض صوت أشد انزعاجاً: رجاءً كفوا عن هذه السخافات، وكأنكم نسيتم إننا بلد ديمقراطي، وقال أحدهم: الخلاصة.. كل (محفظة) حرّه بما عندها، ورد عليه أحدهم: هذا تسطيح للقضية، وأثارت مفردة تسطيح غضب المتحدث ورد له الصاع صاعين، وتداخلت الأصوات وارتفعت الأيدي، واضطررنا الى مغادرة المقهى ونحن نتساءل: أين نذهب؟ في شبابنا أتعبتنا الدكتاتورية والحاجة والحروب، وفي شيخوختنا أتعبنا الصراخ الديمقراطي والضجيج والكلام الفارغ...
ملاحظة: أينما وردت مفردة (محفظة) أو (محفظات) يرجى تصويبها الى (محافظة) أو (محافظات)، معتذرين عن هذا الخطأ المطبعي الذي أدى الى سقوط أطول الحروف وأكثرها ليونة ورقة وجمالاً.. وهو (الألف الطويلة!!)