انقلاب 30 تموز 1968 ومآلاته

العراق 2019/07/28
...

د.عبدالله حميد العتابي
 
 
 
لم ينل انقلاب 30 تموز 1968 اهتماما من مؤرخي العراق الا بنطاق محدود، على الرغم من ان دكتاتور العراق صدام حسين قد بنى مجده الشخصي على احداث ذلك اليوم ، الذي كانت نتائجه وخيمة على الشعب العراقي وعلى دول الجوار . ولنا ان نتساءل عن حقيقة ما جرى في ذلك النهار؟ كيف انهى انقلاب 30 تموز 1968 الصراع المناطقي على السلطة في العراق لصالح التكارتة على حساب ابناء  الرمادي ؟ الى اي مدى نجح صدام في مسك دفة السلطة بيد العائلة على حساب النفوذ الحزبي و المناطقي والمديني والعشائري ؟
فبقدر تعلق الامر بحقيقة احداث انقلاب 30 تموز 1968 ، ليس ثمة من شك بأن البعث قد جاء الى الحكم في العراق عبر انقلاب 17 تموز 1968 المشؤوم على ظهر (ضباط القصر) المدللين من الرمادي :المقدم  الركن عبد الرزاق النايف معاون مدير الاستخبارات العسكرية والعقيد ابراهيم الداود قائد الحرس الجمهوري والرائد  سعدون غيدان آمر كتيبة دبابات الحرس الجمهوري .  ومن المفيد ان نستذكر ماقاله مقدمو المخابرات المصرية الذين ارسلهم عبد الناصر لمعرفة اوضاع العراق قبيل انقلاب 17تموز اذ  ابلغوا صبحي عبدالحميد: هناك حماران يسرحان في بغداد وهما النايف والداود من تمكن من ركوبهما اوصلاه الى القصر الجمهوري،فاركبهما قبل ان يركبهما غيرك .
 عين النايف بعد انقلاب17  تموز 1968 رئيسا للوزراء والداود وزيرا للدفاع وغيدان قائدا للحرس الجمهوري .
 استدرج النايف في نهار 30 تموز 1968 الى مأدبة غذاء في القصر الجمهوري بالاتفاق مع البكر والاخرين ،كان الغذاء غزالا مشويا،قد اصطاده حماد شهاب، وهذا ما برر به حماد دعوته للنايف الذي قدم ومعه اثنا عشر حارسا مسلحا ظلوا في فناء القصر الجمهوري ،ولكي يترك انطباعاً بانه ليس هناك اي شيء غير عادي ينتظر حدوثه ،دعي  صالح كبة وزير المالية الى اجتماع ،في اليوم نفسه ,بالرئيس البكر للتباحث في الامور المالية و لاسيما الميزانية ،وحين خرج من الاجتماع مع البكر ،قابل رئيس الوزراء عبد الرزاق النايف قبل دخوله القصر الجمهوري وتحدث بثقة و اطمئنان عن محادثته مع الرئيس ومن المعروف ان صالح كبة من رجال النايف المقربين. ( ينظر : مجيد خدوري ،العراق الجمهوري ,ص 50 ) . وحين دخل النايف استقبله البكر بحفاوة ،واجرى معه احاديث مطولة خلال تناولهما الطعام وجلس على مائدة الطعام  ،كل من حردان التكريتي ،صدام التكريتي ،حماد شهاب التكريتي ،وسعدون غيدان ،وصالح مهدي عماش ،وكان حماد شهاب يضحك قائلا : “ طعام اليوم غزال كله “ . 
وفي سياق متصل ،جلس عدد من افراد الجهاز السري لحزب البعث ‘ والذي يحمل اسم (جهاز حنين )  وهم: صلاح عمر العلي التكريتي ،ذياب العلكاوي التكريتي ،جعفر الجعفري التكريتي ,كامل ياسين التكريتي،عجاج احمد هزاع التكريتي ،برزان التكريتي ،سعدون شاكر ،وحسب الخطة المتفق عليها . وبعد الانتهاء من الطعام ،سيأتي صدام ويلحق به صلاح التكريتي،و ذياب  التكريتي وبرزان التكريتي ويدخلون الغرفة على النايف ويشهرون عليه في وقت واحد مسدساتهم وكان النايف قد جلس او (اُجلس )وظهره الى باب الغرفة . فدخلوا عليه صارخين بصوت واحد لا يسمعه من في الخارج : ارفع ايدك فلما شاهد  مسدساتهم وضع يده على عينه وقال عندي اربع اطفال - حسب رواية صدام للحادثة والتي اشكك فيها- (ينظر: امير اسكندر، صدام حسين مناضلا و مفكرا وانسانا ،ص 117) . في حين يروي المؤرخ العراقي المغترب مجيد خدوري “ان مشادة كلامية بودلت بينه وبين قادة البعث” . وفي رواية اخرى يبدو انها الارجح فانه التفت الى البكر قائلا له : ابو هيثم اين العهد الذي بيننا؟! .(ينظر : جعفر الحسيني ,على حافة الهاوية ,ص21) .فنهض البكر وخرج ,ولم يبق سوى جماعة جهاز حنين واسيرهم النايف،وعلى الفور اتجه صالح مهدي عماش ومعه سعدون غيدان، الذي اهملاه النايف والداود فكسبه البكر و حردان الى جانبهم، الى كتيبة دبابات الحرس الجمهوري واتجه حردان الى مقر قيادة القوة الجوية، وطه ياسين رمضان  الى وزارة الدفاع للسيطرة عليه . واتجه حماد شهاب الى اللواء المدرع العاشر الذي كان يعسكر في  ضواحي بغداد منذ يوم 17 تموز وقاده الى داخل بغداد ليحيط بالقصر  الجمهوري . واستدعي مرافق النايف وكان يجلس في الخارج الى مكتب البكر .حيث هجم عليه صدام واخذ مسدسه -على وفق رواية صدام، وتم اعتقال حرس النايف وتجريدهم من اسلحتهم من قبل رجال جهاز حنين الاخرين . وبعد ثلاث  او اربع ساعات ابلغ النايف من محتجزيه بان يخرج من القصر الجمهوري، وسيخرجون معه بصورة طبيعية لا تلفت الانظار ويركبون السيارة ويتجهون الى معسكر الرشيد، اذ اعدت طائرة خاصة لنقله إلى المغرب مقر عمله الجديد  سفيرا هناك، وتم تهديده بالقتل في حال رفضه 
الاوامر . 
اما ابراهيم عبد الرحمن الداود فقد عين بعد انقلاب 17تموز 1968 وزيرا للدفاع، ومنح رتبه فريق . وذهب إلى الأردن في 29 تموز من العام نفسه لتفقد القوات العراقية المرابطة هناك . وليفسح  المجال من دون ان يدري  في اليوم التالي لحزب البعث ليطيح به وبعبد الرزاق النايف وبمرحلة حكم  ضباط الرمادي، لتبدا مرحلة حكم زمرة  من التكارتة سيكون الشعب حاكما على افعالهم . (ينظر :عبد السميع خلف عبد حبيب الجنابي، الدور السياسي للنخبة العسكرية في لواء الرمادي،رسالة ماجستير، جامعة الانبار، كلية الاداب،2014،ص 292).
كلمة للتاريخ  تقال، لقد استغل النايف – الداود تسامح الرئيس عبد الرحمن عارف، فخانوا الامانة، واعتقدوا ان تآمرهم على رئيسهم سيحقق طموحاتهم غير المشروعة ولكنهم تناسوا قول لينين :”ان بعض الانتصارات اشد عارا من الهزائم “. وانطبقت عليهم مقولة اتاتورك :”ان اولئك الذين ينتصرون بالسيف سوف يلقون الهزيمة حتما على يد من اخضعوهم بالخديعة وسيخلون لهم اماكنهم في النهاية”.
اما البكر فقد وجد في النايف - الداود مغفلين استخدمهما بنجاح، مستغلا تذمر غيدان منهما لعدم اعطائه المنصب الذي يليق به كما كان يتوقع فتعاون مع البكر للاطاحة بهما.
كان ابعاد النايف - الداود الخطوة الاولى في سلم حكم العشيرة،اذ ان واضح الامر هو تقلص الدولة وتلخيصها من جانب صدام حسين بسلطة العشيرة وقد سيطرت  العشيرة  على السلطة و على الحزب اثر انقلاب 30 تموز 1968 .كان حردان التكريتي وحماد  شهاب التكريتي وصلاح عمر العلي التكريتي فضلا عن احمد حسن البكر التكريتي وصدام حسين التكريتي على رأس مجلس قيادة الثورة والحكومة والحزب في السنتين الاوليتين في الحكم وكانت رئاسة الدولة ورئاسة الوزراء وقيادة القوات المسلحة  وحقيبتا الداخلية والدفاع، فضلا عن رئاسة أركان الجيش وسلاح الطيران وحامية بغداد والمخابرات وقاعدة الحبانية الجوية في يد العشيرة الحزبية(التكارتة)،(ينظر : حنا بطاطو،العراق :الشيوعيون والبعثيون  والضباط الاحرار،ص 397) اذ يرتبط هؤلاء ببعضهم لا في اطار تكريت المدينة،وانما في أطار العلاقات العائلية والعشائرية حتى أن الصراع المناطقي سرعان ما احتدم بين جناح تكريت الذي يقوده صدام وجناح سامراء الذي كان يتزعمه د.عبدالله السلوم السامرائي عضو القيادة القطرية القوي ووزير الاعلام والارشاد فتمت تنحيته من الحزب و الوزارة في الاول من نيسان 1970 ،بعد ان احضر صدام شهودا وصورا تثبت تورط السامرائي في علاقات نسائية . وفي السياق نفسه ،استغل صدام حركة ناظم كزار للانقلاب على الثنائي التكريتي البكر- صدام ،فاتهم عبد الخالق السامرائي عضو القيادتين القومية و القطرية للحزب بالاشتراك مع كزار في حركته ،وحكم عليه  بالاعدام غير ان تدخل قيادات الحركة الوطنية في لبنان ،والقيادات الفلسطينية ،وضغطها على البكر ساعد على تخفيف الحكم الى السجن المؤبد واودع في زنزانة تحت الارض لينفذ فيه حكم الاعدام في 30 اب 1979 بناء على مناشدة علي حسين المجيد لصدام .
ان نظرة فاحصة دقيقة لتطور الصراع عقب انقلاب 30 تموز 1968 توضح لنا بما لا يقبل الشك‘ ان الصراع الذي دار في الواقع بين ألاجهزة الامنية والاستخباراتية من جانب و الحزب كمؤسسة سياسية من جانب آخر. لم يكن متعادلا ,ولم يحسم الحزب اي صراع او خلاف، اذ كانت اجهزة صدام المباشرة هي التي تحسم الصراع ،وهذه  الاجهزة هي :حرسه الخاص وحمايته ,مخابراته ,امنه الخاص . فقد شهد منتصف الثمانينيات ،وفي ظل طفولة ومراهقة ولدي صدام حسين . صعوداً سريعاً لنجمين شقيقين هما حسين وصدام كامل المجيد اللذان تزوجا من بنتي  صدام، فضلاً عن صعود ابن عمهما الاخر علي حسن المجيد الملقب بالكيمياوي الذي هيمن على المؤسسة العسكرية، وتم ذلك الصعود في المدة الذي هيمن فيها اخوة صدام من امه ،برزان ووطبان و سبعاوي على الاجهزة الامنية والمخابراتية، وفي الوقت نفسه، تم صعود ابناء الخالات في الحرس الخاص وحماية صدام مثل عبد حمود وارشد ياسين اللذين تمتعا بصلاحيات 
واسعة .
نستخلص مما تقدم ،هيمنة صدام  شخصياً ثم هيمنة الاقارب من مختلف الفروع وحسب الاختصاصات والاجهزة  على مقدرات العراق. بمعنى ادق انها دولة تعتمد على اجهزة القمع و المخابرات والجيش ،فاصبحت بيد عائلة كاملة ،كانت تلك صورة العائلة في الحرب العراقية – الايرانية مباشرة منذ صعود صدام الى الرئاسة، كما يمكن القول ان التركيز الشديد للسلطة بمخالب عائلية تتبع صدام و تستمد سطوتها وسلطتها منه ،ويستمد صدام امنه واستمرارية حكمه منها: تراجع الحزب الى الخلف عندما بات جهازاً شكلياً امنياً عبر تنظيماته وعسكريا عبر الجيش الشعبي . ولم يمض وقت طويل حتى قيل ان التكارتة يحكمون من خلال الحزب وليس الحزب هو الذي يحكم من خلال التكارتة .
كانت مخالب عائلة صدام (الحرس الجمهوري،الحرس الخاص، فدائيو صدام، جهاز الامن الخاص، المخابرات، الامن العامة تمتد افقيا تحت سلطة صدام نفسه. اذ انها عمليا فوق الدولة، وكان مسؤولو تلك الاجهزة فوق مجلس الوزراء وفوق مجلس قيادة الثورة وفوق القيادة القطرية  وتحت أمرة صدام فقط.