تعقب كنوز العراق المسلوبة

الثانية والثالثة 2019/07/30
...


ريتشارد هال/عن صحيفة الاندبندنت
ترجمة: انيس الصفار

في العمق هناك، في المكاتب الخلفية بمبنى المتحف العراقي الوطني وسط بغداد عند نهاية ممر جانبي يمتد مبتعداً عن المسلات البابلية والثيران الاشورية المجنحة، توضع الاستعدادات لانطلاق عملية على نطاق دولي لملاحقة كنز ثمين. جلست وفاء حسن وراء مكتبها تدقق النظر في رزمة كبيرة من الاوراق مطلقة حسرة كلما قلبت احدى الصفحات. ذلك الذي بين يديها هو كتالوج يضم صور لقى أثرية عثر عليها اصلاً في العراق ولكنها اليوم متناثرة في انحاء الأرض.
تقول وفاء: "تجدها في الولايات المتحدة .. في بريطانيا .. في سويسرا ولبنان والامارات العربية واسبانيا .. في كل مكان. كلها تعود لنا، ونحن نسعى بأقصى جهدنا لاستعادتها."
 

وفاء حسن متخصصة في الاثار ومحققة في آن معاً، وبصفتها رئيسة قسم الاسترجاع في المتحف تكون المسؤولة عن إيجاد واسترجاع عشرات الالاف من القطع الاثرية التي نهبت من العراق ثم هربت سراً الى متاحف ومجموعات خاصة يملكها اشخاص في الخارج.
تجارة الاثار العراقية واستعادتها أشبه بلعبة قط وفار مستمرة منذ عقود، فحدود هذا البلد تحتضن ما قد يكون اهم منطقة أثرية في العالم كله، هي منطقة بلاد ما بين النهرين الواقعة بين نهري دجلة والفرات. في هذه البقعة ولدت الحضارة، وفيها شيدت اول المدن وكتبت أولى الكلمات، على تلك الارض قامت أولى الامبراطوريات ثم اليها هوت.
بيد أن الحروب والقلاقل جعلت من هذه الارض نهباً سهلاً للصوص. في مطلع القرن العشرين كان علماء الاثار الاوروبيون ينقلون ما يعثرون عليه الى اوطانهم بصورة روتينية، والتنقيبات غير المشروعة كانت ممارسة شائعة في زمن الرئيس المقبور صدام حسين، لاسيما بعد حرب الخليج الاولى. لكن ابواب الطوفان لم تتفتح على مصاريعها إلا بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في العام 2003 وما ساق في ركابه من فوضى.
بعد فرار الجنود العراقيين في 10 نيسان 2003، وقبل أن تصل القوات الاميركية لتأمين الحماية له، تعرض المتحف الوطني (حيث تعمل وفاء حسن) لعمليات نهب شملته من اسفله الى اعلاه. أكثر من 15 ألف قطعة اثرية نهبت، تراوحت احجامها بين الاختام الاسطوانية الصغيرة الحجم وتمثال الملك السومري إنتيمينا عديم الرأس. كانت تلك احدى اعظم الجرائم التي ارتكبت على الاطلاق بحق هذا الإرث الثقافي.
عن ذلك اليوم تقول وفاء: "لقد حزنت حزناً ما بعده حزن. اناس كثيرون اقتحموا المكان ودمروه تماماً."
في العام 2015 أعيد فتح المتحف، ولكنه بدا شبحاً باهتاً عن الاصل الذي كان. وبينما هو يخطو خطواته الأولى نحو التعافي هوت الكارثة الثانية. ففي العام 2014 استولى تنظيم "داعش" على ثالث اكبر مدن العراق، ومعها استولى على آلاف المواقع الاثرية والمتاحف. تأويلات هذه الجماعة الصارمة لتعاليم الاسلام تجعلها تحرم تبجيل التماثيل والقبور، لذا دمرت كثيراً من التماثيل التي لا تقدر بثمن وهرّبت ما تبقى الى الخارج لتمويل حملتها الارهابية. ابان ذروة تجبرها بلغ مقدار ما تحققه العصابة في السنة الواحدة من خلال بيع الاثار والتحف المنهوبة في السوق السوداء قرابة 80 مليون جنيه استرليني.
بيد أن حب وفاء لآثار بلدها يساوي كره المتطرفين لها ويزيد. في كل يوم تتمشى في قاعات المتحف مرتين، متوقفة هنا للحديث مع الزائرين شارحة لهم عن كل قطعة من المعروضات، مسترسلة معهم في التفاصيل قدر ما يحبون. كل رقيم في نظرها وكل اسطوانة تستخرج من ارض العراق يجب أن يكون مكانها هنا في هذه القاعات.
تقول وفاء: "نحن بلد غني بتاريخه، وهنا عاشت شعوب قديمة كثيرة. إذا ما ذهبت الى بابل سوف تجد الارض تغص بالقطع التاريخية .. مثل الازهار. ولكن المفقود ايضاً كثير."
على الجدار خلف مكتبها ملصق كتبت عليه بأحرف كبيرة كلمتان: "القائمة الحمراء". على هذا الملصق عشرات الصور لقطع مفقودة تحاول الوصول اليها، ومن بينها رقيم يعود تاريخه الى نحو 3500 عام قبل الميلاد نقشت عليه كتابة مسمارية من مدينة الوركاء السومرية القديمة، واسطوانة من بابل عليها اسم الملك الاشوري آشور بانيبال تعود للقرن السابع قبل الميلاد.
تقضي وفاء وفريقها المؤلف من سبعة صيادي كنوز وقتهم في الطواف عبر الانترنيت مفتشين عن أية اشارات ترشدهم الى قطع منهوبة من بلاد ما بين النهرين. الوصول الى كل قطعة يعثرون عليها يتطلب منهم اسلوباً مختلفاً، فتلك المودعة في متاحف العواصم الاجنبية يستعان عليها بالدبلوماسية, ولكن استعادة القطع من المجموعات الخاصة المملوكة لاشخاص لها قصة مختلفة.
تقول: "المزادات هي الأهم، فنحن نبقى ننظر ونتابع كل ما يعرض للبيع، ومتى ما عثرنا على شيء بدأنا معركة قاسية لاسترجاعه."
عمل وفاء يضعها في تماس مع وكالات حكومية واجهزة شرطة والبوليس الدولي وهواة جمع التحف والمتاحف والسفارات في أي مكان من العالم. تقول ان الوكالات الحكومية تكون متعاونة معها في عملها وتبذل جهدها لمساعدتها، ولكن معظم عملها تؤديه من مكتبها في المتحف، وهذا يقيد قدرتها.
تقول: "كثير من القطع لا أتمكن من الوصول اليها ورؤيتها." موضحة أن دور المزادات واصحاب المجموعات الخاصة كثيراً ما يحول بينها وبين الاطلاع على القطع التي تهتم بها وفحصها.
تمضي مستطردة: "عندئذ لا نجد بداً من دفع المال للمحامين في ذلك البلد للوصول اليها، وفي بعض الاحيان نضطر الى التخلي لأننا لا نملك المال المطلوب."
لم يسترجع من القطع التي نهبت في العام 2003 إلا نحو نصفها، وكثير من ذلك كان بمساعدة من الحكومات الاجنبية والشرطة. في آذار من هذا العام اعادت الحكومة البريطانية لوحاً حجرياً بابلياً نادراً يحمل كتابة مسمارية ضبط في مطار هيثرو خلال محاولة لتهريبه الى خارج البلد، وسوف تعيد الينا قريباً مجموعة من 154 لوحاً مسمارياً تم ضبطها في 2011.
بيد أن هناك آخرين أكثر ممانعة في التخلي عما لديهم من قطع أثرية. البلدان المختلفة لديها قوانين مختلفة بطبيعة الحال في ما يخص حيازة القطع الأثرية، وبالتالي تكون هناك طرق وأساليب قانونية متاحة امام الجامعين والهواة للحصول على تلك القطع القادمة من بلاد ما بين النهرين القديمة، الأمر الذي يجعل من الصعب استرجاعها منهم.
تقول وفاء: "احياناً يقولون لنا هذه القطع ملكي! ففي هذه البلدان قوانين تمنحهم حق التملك. إنه شيء يصيب المرء بالجنون، يجب أن يفهموا أن هذه المواد مسروقة."
بين الاوراق التي على طاولة وفاء هنالك ملف يعلو شأناً على كل ما سواه. هذا الملف يخص احد كبار مقتني تحف وادي الرافدين القديمة، وهو رجل اعمال نرويجي ومليونير اسمه "مارتن شويين".
في 10 تموز الماضي بيعت قطعتان من مجموعة هذا الرجل في مزاد كرستي بلندن. احداهما رقيم طيني من بلاد ما بين النهرين عمره 5000 عام عليه كتابات مسمارية أولية مع صور منقوشة ترمز الى حصص غذاء شهرية. يقول وصف القطعة أن هذا هو أقدم سجل معروف لنظام كتابة ابتدعه الانسان، وقد بيع بمبلغ 62,500 جنيه استرليني. القطعة الثانية رقيم بابلي يعود تاريخه الى العام 1812 قبل الميلاد وهو سجل بأسماء الملوك البابليين الذين توالوا على الحكم لعدة قرون. بيع هذا الرقيم بمبلغ 18,750 جنيه استرليني.
تقول وفاء معلقة على الرقيمين: "هذه قضية جديدة في قسمي." ولكن شويين معروف تماماً بالنسبة لها، وكذلك مجموعته.
كان شويين على مدى سنوات محور جدل يتعلق بمجموعة مقتنياته المؤلفة من 654 وعاء طقوس من الفترة الآرامية ادخلت الى بريطانيا في التسعينيات. هذه القضية مثال معبر عن مدى التعقيدات والصعوبات التي تواجهها وفاء في عملها.
أفاد تحقيق اجرته مجلة "ساينس"، وهي مجلة أكاديمية دورية يعمل فيها متخصصون في المجالات العلمية المختلفة، بأن شويين حصل على 444 وعاء من تاجر أثريات مقره لندن اسمه "كرس مارتن". ثلاثمئة من هذه الاوعية على الأقل كان مصدرها تاجر اردني اسمه غسان ريحاني، وتضيف المقالة أن شويين بدأ بعد ذلك بالحصول على الاوعية مباشرة من ريحاني.
في وقت لاحق أعار شويين مجموعة أوعيته الى جامعة لندن كولج لغرض دراستها، وعندما أثار فيلم وثائقي نرويجي تساؤلات بشأن مصدر المجموعة شكلت الجامعة لجنة تحقيق لاكتشاف المصدر.
نتائج تلك الدراسة لم تعلن أبداً، ثم أقام شويين دعوى قضائية على جامعة لندن كولج لاستعادة أوعيته. كسب الرجل الدعوى وتلقى مبلغ تعويضات لم يعلن مقداره، وبعد ذلك بفترة نُشر تصريح أُعلن فيه أن "ما من مطالبات تطعن بحقوق ملكية مجموعة شويين أو نسبتها، قد وجهت بشكل صريح أو ضمني."
تحفظت جامعة لندن كولج على التقرير في حينها، وكان ذلك جزء من التسوية. ولكن توصلات اللجنة نشرها علناً فيما بعد البروفسور "كولن رينفرو"، وهو متخصص بالاثار من جامعة كامبردج وكان من بين اعضاء لجنة الخبراء التي اعدت التقرير. قال رينفرو متحدثاً امام مجلس اللوردات، وهو عضو فيه ايضاً، أن التحقيق توصل على أساس موازنة الأرجحيات أن الأوعية منقولة من العراق وأن عملية النقل وقعت بعد تاريخ 6 آب 1990، وبالتالي تعتبر غير شرعية."
بعد ذلك أشارت لجنة الخبراء، وفقاً لمراجعة اجريت على تقرير مجلة "ساينس"، الى قانون في العراق يعود تاريخه الى العام 1936 يحظر تصدير المقتنيات الأثرية إلا لأغراض العرض في المعارض أو البحث العلمي. ولكن اللجنة لم تطرح شرعية ملكية شويين للطعن، وبالتالي خلصت الى "عدم وجود ادلة مباشرة تتعارض تعارضاً مؤكداً مع مصداقية شويين أو تخل بها." رغم هذا أوصى الخبراء بإعادة أوعية الطقوس الى وزارة الاثار في دولة العراق."
بيد أن مؤسسة "مجموعة شويين" رفضت الاعتراف بما توصل اليه التقرير على النحو الذي كشفه رينفرو، وقال متحدث باسم المؤسسة: "بعد بحث وتحريات اجراها الخبراء وتحقيقات جامعة لندن كولج بشأن المنشأ الذي جاءت منه أوعية الطقوس تأكد للأخيرة أن أي تصور بعائدية حقوق ملكيتها الى جهة أخرى غير مؤسسة مجموعة شويين تصور لا يقوم على اساس. وأية تأكيدات على أن مجموعة شويين يمكن ان تكون منهوبة أو مهربة لا يمكن أن تكون صحيحة. كانت الأوعية جزءاً من مجموعة تأسست وجرت تكملة اجزائها عبر السنوات على يد أجيال من الجامعين والمقتنين في الاردن قبل تاريخ 1965  بكثير (في أعوام الثلاثينيات) ثم حصلت من السلطات الأردنية على رخصة إخراج سليمة في العام 1988."
يقول علي الطائي، وهو موظف قضائي يعمل في قسم الاسترجاع مع وفاء حسن، أنهم لم يجروا أي اتصال مباشر مع شويين، ويضيف: "لقد قمنا بمحاولات عديدة لاسترجاع تلك القطع الاثرية عن طريق القنوات الدبلوماسية الرسمية، ولكننا لسوء الحظ لم نلق أي استجابة جدية. من المؤكد أننا سنضطر للجوء الى وسائل اخرى، مثل المؤتمرات الدولية وقرارات مجلس الأمن الدولي. من المهم ألا ندخر وسعاً في هذا الأمر."
الشيء المهم بالنسبة لوفاء هو أن هذه اللقى اشياء تخص العراق. تقول: "يجب أن يتخيلوا الحال لو كان الموقف معكوساً، لو كان وطنهم هو المحتل .. ثم جاء  الناهبون وداعش فسلبوهم كل شيء وباعوه للعراقيين. كيف سيكون شعورهم؟"
هذه قضية من قضايا عديدة تلاحقها وفاء، ولكن مهما بلغ عدد القطع التي تسترجعها فإنها تخوض معركة شبه ميؤوس منها لأن يد السلب والنهب التي امتدت الى تاريخ العراق لم تتوقف بعد.
هنالك في العراق أكثر من 10 آلاف موقع أثري لم تغطِّ التنقيبات منها سوى 10 بالمئة. آلاف من تلك المواقع لا تزال تحت الأرض، بلا حراسة وهي سهلة امام اللصوص والسلاب.
يقول "برونو ديسلانديز" وهو مهندس صيانة في منظمة اليونسكو: "استمرار التنقيبات اللامشروعة هو أكبر خطر يتهدد الآثار العراقية اليوم. انها عملية مستمرة الحدوث كل اسبوع في المواقع الأثرية وفي كل مكان من العراق."
يقول ديسلانديز أن ضعف التنسيق بين المؤسسات الحكومية المختلفة وقواعد البيانات المركزية لتعقب اللقى المفقودة يعيق اعمال من يحاولون اعادة الاثار المفقودة الى موطنها. كذلك فإن البعض يحتفظون بالقطع لفترة أطول مما يجب.
يمضي ديسلانديز موضحاً: "الدول الاجنبية ليست لديها مبادرة كافية لإعادة تلك المواد الى العراق. يعتقد هؤلاء أنهم يقومون بحمايتها إذ يبقونها عندهم لفترة أطول مما يتطلبه الأمر.
كل يوم يمر دون عودة آثار العراق الى بلدها يمثل عمراً كاملاً في عين وفاء. فبينما هي تتمشى في المتحف تجدها تتوقف امام خزانة عرض مخصصة لأوعية طقوس آرامية من القرن السابع أو العاشر الميلادي. تقول هنا ستوضع اوعية مجموعة شويين، إذا ما قدر لها أن تعود الى العراق.
تقول: "بالنسبة لي ستكون عودتها انجازاً عظيماً جداً، لقد دفع هذا البلد ثمناً باهظاً .. دفع بالدم .. أعيدوا لنا تاريخنا وهذا أقل ما ينبغي عليكم أن تفعلوه."