تحت اليد

الصفحة الاخيرة 2019/07/30
...

حسن العاني 
نهاية عام 2004 ، وهي المرة الخامسة التي اعتذر فيها لرئيس التحرير الشاب ، قليل الخبرة ، وهو يصرُّ من باب الثقة بي والمحبة أن أتولى مهمة الاشراف على صفحة في جريدته تحمل عنوان ( أبواب مفتوحة) تعنى باستقبال الآراء الحرة للقراء ، وما بين رفضي واعتذاري وبين تمسكه وإصراره ، قال لي ما معناه [ هذا تكليف رسمي واجب التنفيذ] ولا ادري ان  كان يتحدث بلغة جادة ام انه يمزح ، ولكن نبرة صوته تدل على ان الرجل يتعامل معي بصيغة الأوامر ، ناسياً أننا في بلد ديمقراطي متطرف في ديمقراطيته لاطاعة فيه من احد إلى احد ، ولهذا استجبت مكرهاً ، وتوليت الإشراف على تلك الصفحة زيادة على كوني مشرفاً على قسم التحقيقات ، لعلمي بان رئيس التحرير – بحكم صداقتنا – يعلم مدى حاجتي إلى كل دينار من الراتب .
صحيح انني لم اعمل في ميدان الصفحات التي تستقبل الآراء الحرة ولكنني بالمقابل لا اجهل بفعل تجربتي الطويلة في الصحافة ، ان الكتابة ضمن صفحة الرأي الحر او الآراء الحرة ، او أي عنوان مماثل تجعل الكاتب يتوهم بأنه ملك أو ابن ملك      ( مصون غير مسؤول ) ، وان الأبواب جميعها مشرعة امامه، فلا ممنوعات ولا خطوط حمر .. ولهذا كنت أتجنب الاقتراب من هذه الصفحات ، خاصة وأنا رجل تعلمت من اخطائي ، وعودت نفسي على ان أُريح واستريح واغلق الباب الذي تأتي منه
 الريح !!
على أية حال ، توليت مهمة الاشراف على مضض ، وسرعان ما وقع المحذور، حيث رفضت مقالة رأيت انها لا تنسجم مع حرية التعبير ، فهي لم تعبر الخطوط الحمر فقط ، بل ضربت بها عرض الحائط ، وقد تقدم كاتبها بشكوى ضدي الى رئيس التحرير الذي انزعج من موقفي ، واسمعني محاضرة مملة عن الديمقراطية ، ولم يتحرج عن وصفي بدكتاتور الكلمة ، ثم طلب مني نشرها على مسؤوليته ، فقلت له [ حاضر .. ولكن من باب الامانة افضل ان تطلع على بعض فقراتها ] ويبدو انه اقتنع بكلامي ، وهكذا وضعت المقالة امامي وقرأت احدى عباراتها [ الحكومة اقرب ماتكون الى مركز الشرطة ، لا احد يحب التعامل معه او الوصول اليه الا مضطراً ، والوقائع الملموسة تشير الى انها لا تمارس صلاحياتها بوسائل شفافة وديمقراطية ، بل تمارسها بأساليب مراكز الشرطة ايام النظام السابق ، ولهذا انتهى المطاف بها وحيدة معزولة ، فعلاقاتها مع دول الجوار ومحيطها العربي متوترة ، ووصل التوتر إلى أميركا وهي اقرب حلفائها ، ولعل أفضل صورة للشبه بينها وبين مركز الشرطة يتمثل في ... ] وقاطعني [ هذا كاتب مزعج يريد توريطنا ] قلت له [ لهذا السبب رفضتها ] الا انه قال لي [ انا لم اقل انها مرفوضة ] وسحبها من يدي وكتب عليها [ المقالة رائعة وصالحة للنشر .. تحت اليد ] واحتفظ بها بين اوراقه ، ولكنها لم تر النور ، وحين راجع كاتبها وقرأ الملاحظة ، غادر الجريدة وهو في قمة السعادة ، ومن يومها كلما قال احدهم ، ان الحكومة تنوي مثلاً توفير سكن لكل مواطن ، تذكرت الكيفية الظريفة التي ضحك بها رئيس التحرير على كاتب المقالة تحت غطاء الدبلوماسية ...