ذاكرةٌ مُستعادة عن الحرب والإنسان

الصفحة الاخيرة 2019/07/30
...

علي الياسري
تنسابُ حزمة من أصوات تحاول بنبرة رقت من أثر السنين أن تُمسك بروح أضناها كون الرجل الذي خرج بأعجوبة من براثن الموت أضاع بلا شك وللأبد لمسة البراءة المغلفة بسذاجة وتهور المراهقة، حين حملته ورفاقه مشاعر التفاخر والعزة الوطنية للتطوع حتى قبل ان يتم استدعاؤهم للخدمة العسكرية في مفتتح الصراعات الوحشية الكبرى للقرن العشرين. 
الصورة الوثيقة والصوت الانساني الوارد في فيلم "لن يشيخوا أبدا" للمخرج بيتر جاكسون ليست مطروحة بالشكل التقليدي للسجل التاريخي والسرد الملتزم بترتيب متسلسل لوقائع الحرب، بل هي أقرب لرواية وانطباعات رجل عجوز يفتح لأحفاده سجل ذاكرته، ساعيا لنفض الغبار عن أكثر الاحداث التصاقا بها وارتبطت بوجدانه بذلك الشعور المرير او المفارقة الداكنة، فحفرت أخدودا عميقا في الذات يتأرجح بين غور أهوال الحرب الى سطح تلك اللحظات العاطفية الناشئة من يوميات العيش في خنادق الحرب العالمية الاولى. 
صاحب ثلاثية (سيد الخواتم) الشهيرة أمضى عدة سنوات في العمل مع فريقه التقني على استعادة أشرطة سينمائية وصورا وتسجيلات صوتية توثّق تلك الايام قبل قرن من الزمن. أكثر من 600 ساعة من المقابلات مع 200 من قدامى المحاربين و100 ساعة من افلام اصلية سجلت ذاكرة الحرب. كانت معالجة تقنية صعبة ومضنية من العمل على تعديل سرعة الإطار المصور بكاميرات تدار يدويا لجعلها بنفس سرعة تدفق الصور بالوقت الحالي، تعديل حجم اللقطة وتنقيتها واضفاء الألوان عليها وهو ما دفع المخرج لزيارة المواقع التي كانت تمثل ساحة المعركة في الجبهة الغربية للوقوف على الطبيعة الحقيقية للمكان المصور بالأبيض والاسود. كان الاهم من ذلك هو الاضافة الرائعة لشريط الصوت إذ تمت الاستعانة بتقنية قراءة الشفاه لكون هذه الافلام صامتة سعيا وراء خلق شعور بصري وسمعي متزامن يتآلف مع الزمن المعاصر الذي نعيشه وإكساب الصورة الوثيقة أكبر قدر من الواقعية التسجيلية. 
يقول بيتر جاكسون عن فيلمه "هذه ليست قصة عن الحرب العالمية الاولى. هي ليست حكاية تاريخية، وقد لا تكون دقيقة تماما، لكنها ذكريات الرجال الذين قاتلوا. إنّهم يسردون انطباعاتهم حول ما كان عليه الحال ان تكون جنديا وقتها".
يهدي المخرج فيلمه لذكرى جده الجندي بالجيش البريطاني، الذي خاض غمار الحرب، بدى بعد انجازه له أكثر فهما واستيعابا لما جرى من احداث اثرت في حياة ونفسية وشخصية من عاشوا جحيم تلك الايام. وذاكرته التي تشكلت مما كان يرويه له والده عن تجربة جده فيها، أضيئت بفعل الكم المعلوماتي والمراجعة الواسعة والمعمقة التي اطلع فيها على ارشيف ضخم. ليخرج من كل ذلك بهذا الاثر السينمائي كإرث يحفظ صورة الانسان بكل تفصيلاتها في حقبة تاريخية مهمة. لقد أدرك وهذا ما يبثه في دقائق فيلمه ان المعاناة في الحرب ليست أسيرة لحظتها بل إن ارتهانها سيظل مشدودا بحبل متين الى آخر العمر، تُغذيه الغُربة التي تلف أرواح من ذاقوا مرارتها. 
تتخذ معالجة جاكسون السينمائية سياق تجربة إنسانية تسعى للملمة انطباعات عشرات الرجال تحت عنوان قصة واحدة هو (كيف عاش الجندي البريطاني تجربة الحرب بكل تفاصيلها؟) ومن ثم فهو يتحرر من نمط البحث التوثيقي الكلاسيكي، فلا اسماء تظهر على الشاشة ولا عناوين امكنة. معالجة تبدو متأثرة كثيرا بمسرح الكاتب برتولت بريشت سواء مقاربة الطبيعة السردية للمسرح الملحمي الذي عُرف به حيث يلعب الراوي دورا رئيسيا في سرد الاحداث على الجمهور. كما انه بخلاف المسرح الارسطي لا ينغمس في العاطفة بقدر ما يعمل على وعي المتلقي في إدراك المجريات وانعكاساتها، او مفهوم الاغتراب حيث التركيز على الاشياء العادية للحدث اليومي وجعلها مصادر جاذبة وباعثة للتفكير عند المتلقي، فنرى ذلك بوضوح في التقاط الجزئيات الصغيرة المصاحبة لعيش الجندي مثل الاكل والملبس والحلاقة وحتى قضاء الحاجة وقت الحرب. سيبدو المخرج مثل تلميذ يطبّق تعليمات أستاذه في استخدامه لبقية اساليب الكتابة لبريشت، من كسر حاجز الوهم مع الجمهور حين تظهر لقطات عديدة للجنود وبلحظات مهمة اثناء تنامي توتر القتال وهم يتوجهون بنظرهم للمشاهدين مع تدفق شريط الصوت مستدعين افكاره ومشاعره وفق طبيعة اللحظة التي هم فيها، الى استعراض ساخر لمواقف من ظروف الحرب تمتزج فيها الضحكة بمرارة رعب العيش تحت وطأة تهديد الموت. ولن ينسى جاكسون تقليد استخدام الاغاني المعروف في المسرح البرشتي والتي تعبر عن الوضع بتلك الايام العصيبة فيختم فيلمه على وقع أغنية (أنسة من آرمنتير) التي اشتهرت اثناء الحرب وكان يرددها الجنود. وسواء كان واعيا لما قام به او جاء الامر عفويا، فإنّه قدم فيلما يوثّق حياة رجال قاتلوا ضد ألمانيا وفق اساليب كاتب ألماني، وهي نقطة جديرة بالاهتمام، لأنّ مفارقة التشارك الانساني هذه ستجد صداها يتكرر عدة مرات بالفيلم، مثل تلك المواقف التي يحمل فيها الاسرى الألمان الجرحى البريطانيين، والمشاهد التي يتمازحُ فيها الجنود الاعداء فيتبادلون السجائر والقبعات وحتى يشربون من الكأس نفسها. صحيح ان جاكسون اشار الى بعض المشاعر الغاضبة احيانا لكن كان واضحا اهتمامه يتوجه نحو تغطية الشعور بالسأم والادراك لعبثية الحرب من جنود كلا الطرفين، وإن فوران المشاعر الوطنية ما هو إلّا انعكاس وقتي زائف لنبرة حماقة كبرى هم 
وقودها.