ترجمة: بهاء سلمان فيفيك تشاودهاري
كان الوقت صيف 2017 حينما حصل ميغيل رولدان على إجازته السنوية لمدة عشرين يوماً عن العمل كرجل إطفاء، متوجهاً نحو البحر المتوسط. لم تكن المياه الرائعة أو الشواطئ الجميلة من أغراه بالذهاب، وإنما الوجوه البائسة للمهاجرين الظاهرة ضمن تقارير الصحف والتلفزيون أثناء سعيهم المحفوف بالمخاطر للعبور من ليبيا نحو ايطاليا.
ويعد الامتداد البحري بين الدولتين أحد أكثر الطرق الشائعة للمهاجرين واللاجئين للدخول الى أوروبا. وبحلول الوقت الذي أنهى فيه رولدان أيام إجازته على متن آيوفينتا، قارب صيد الأسماك المحوّر المدار من قبل منظمة "يوغند ريتيت" الالمانية غير الحكومية، كان قد ساعد على انقاذ خمسة آلاف مهاجر؛ وبمجرّد عودته الى عمله اليومي مع وحدة الغطس التابعة لقسم الدفاع المدني في أشبيلية، مضى بقية أفراد الطاقم بإنقاذ 14 ألف مهاجر آخرين.
يقول رولدان: "لقد شاهدت الكثير من الآلام والمعاناة والموت. كان الأمر مفزعاً، ونحن حاولنا بذل كل ما بوسعنا بشكل قانوني وواجهنا الكثير من البيروقراطية، وهذا بطبيعة الحال كلّف الكثير من المهاجرين أرواحهم؛ ومرّت أوقات تم تركهم يغرقون خلالها لأننا لم نمنح الإذن من قبل الجهات الإيطالية لانقاذهم." وبرغم محاولتهم الإبحار ضمن المنطقة الإيطالية القانونية، يواجه رولدان وأعضاء طاقمه الستة الآخرين حالياً السجن لمدة عشرين سنة بعد إتهامهم من قبل السلطات بمساعدة مهاجرين غير شرعيين ومساعدة المتاجرين بتهريب البشر. واحتجزت الشرطة الايطالية قارب آيوفينتا خلال آب 2017 مستندة الى قانون مكافحة المافيا، مع أمر قضائي بتحقيق يمكن أن يفضي الى محاكمة تجرى لاحقاً هذه السنة.
نشر المعلومات
كان رولدان في لندن قبل عدة أسابيع للحديث عن تجربته وما يزعم كونه تجريماً للمنظمات غير الحكومية الساعية لإغاثة المهاجرين؛ ووجه خطاباً مؤخراً الى البرلمان الأوروبي، تحدث فيه عن حوادث أخرى عبر القارة. وعاد للتركيز على ايطاليا، بعد اعتقال كارولا راكيتا، قبطان قارب الانقاذ سي ووتش 3، الذي تشغله منظمة الأذرع المفتوحة الإسبانية غير الحكومية.
تحدّت راكيتا البيروقراطية الوظيفية، فارضة طريقها صوب ميناء جزيرة لامبيدوسا لجلب 42 مهاجراً الى الشاطئ وتم وضعها رهن الاقامة الجبرية، وتم إطلاق سراحها قبل عدة أيام بقرار قضائي، لكنها ما زالت تواجه حكماً محتملاً بالسجن مع ادعاء نائب رئيس الوزراء الايطالي ماتيو سالفيني، بأن تصرّفاتها نابعة من "تحريض سياسي".
المسؤول اليميني التوجه كان وراء تقديم تشريعات أكثر صرامة، نالتها انتقادات من الأمم المتحدة والناشطين، نتج عنها مواجهة المتطوّعين الساعين لانقاذ المهاجرين لأحكام مطوّلة بالسجن، وغرامات مالية تصل الى 14 ألف يورو، علاوة على
سياسة "الموانئ المغلقة".
ويواجه سالفيني تحديات أخرى، ففي السادس من تموز الماضي، رسى بميناء لامبيدوسا "اليكس"، قارب انقاذ آخر تابع لمنظمة خيرية حاملا ً41 مهاجراً آخر تحطّم قاربهم، لكن تم منعهم من النزول، في نفس الوقت الذي وصلت به الباخرة "آلان كردي" التابعة لمنظمة عين البحر الخيرية الألمانية، الى المياه المقابلة للجزيرة. يقول رولدان: "ينبغي أن لا يتعلّق أمر انقاذ الأرواح بالشؤون السياسية، وإنما بالانسانية؛ فالمنظمات غير الحكومية تعمل على انقاذ المهاجرين لأن الحكومات تحظر عليها ذلك. الأمر لا يتعلّق فقط بايطاليا، فهو شامل لكل أوروبا، وانقاذ الأرواح ليس بجريمة، واعادة المهاجرين ببساطة الى ليبيا لمواجهة المزيد من المعاناة لا يمثل الرد. أين الدرس الأخلاقي من كل هذا؟".
مساعٍ متعددة
بحلول مطلع تموز، أوصل أعضاء من منظمة الأذرع المفتوحة إحدى سفن الانقاذ التابعة لهم الى البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ الفرنسية لتسليط الضوء على تجريم المنظمات غير الحكومية العاملة على انقاذ المهاجرين، واجتمعوا مع أعضاء البرلمان لمناقشة الموضوع.
ويقول رولدان، الذي اسهم سنة 2016 أيضاً في مهمات انقاذ داخل بحر ايجة، انه تطوّع لهذا العمل في البحر المتوسط بسبب الإجحاف الذي يواجهه المهاجرون والرغبة بإنقاذ الأرواح.
وكشف عن أكثر ذكرى تطارد مخيلته، وهي انقاذ أم كانت تصرخ هلعاً على ابنها الرضيع، الذي كان على متن سفينة نصف غارقة محاطاً بالجثث الطافية، وعندما وصل اليه وجده ميّتاً، وأشار الى إمه بعدم الجدوى: "النظرة التي كانت على محيّا الأم ستبقى تعيش داخلي الى الأبد. حينها، شعرت بالعجز
التام." وبحسب بيانات حديثة صدرت من المفوضية العليا لشؤون اللاجئين ومنظمة الهجرة الدولية، وصل 1940 شخصاً الى ايطاليا من شمال أفريقيا منذ بداية 2019، ومات نحو 350 فرداً اثناء الطريق، واضعة معدل الوفيات لأولئك الذين عبروا بأكثر من 15 بالمئة. وإجمالاً، عبر ما يقدر بستمئة ألف مهاجر منذ سنة 2014، مع تقارير تشير الى موت أو فقدان أكثر من 14 ألف أثناء الرحلات.
يؤكد رولدان أن الاحياء، وليس الموتى، من يبقونه يقظاً طيلة وقت الليل: "الشخص الذي يموت لا طائل من التفكير به، أما من يبقى على قيد الحياة، فعليه تدبير أموره وحل مشاكله مع كامل الصدمات والأذى الذي لاقاه ليعيد بناء حياته. أنا دائماً أتساءل ماذا يحصل للناس الذين يتم انقاذهم؟ لقد مروا بمحن رهيبة، وكيف يتسنى لهم التغلّب عليها؟"
ويصر رولدان على عدم خشيته من دخول السجن، رغم ان "دقيقة واحدة" خلف القضبان ستكون حالة ظالمة؛ ويحظر عليه دخول ايطاليا، وبقي قاربه قيد الحجز، بيد أنه يؤكد إصراره على توجهه مباشرة صوب البحر المتوسط إذا رفع الحظر عنه لتأدية أفضل شيء يعرفه: "أنا رجل إغاثة، أنقذ الناس وأحفظ حياتهم؛ وهو أمر يسري في
دمائي".