د. جاسم حسين الخالدي
لم يُعدُّ الفسادُ حالةً فرديةً تقتصرُ على الفردِ وحده، وتتعلق بتربيته المجتمعية، ومدى تقبله لأكل المال السحت؛ بل أصبحَ ثقافةً شائعةً في أغلب المجتمعات؛ ولاسيما النامية منها، وكل فرد من أفراد المجتمع يدفع باتجاه اشاعته بين الناس، بقصدٍ ومن دون قصد؛ ف"الموظف" لا يقوم بمهام عملِه على وجه الدقة الا اذا ما حصل على ثمن معين، مضافا الى الثمن الذي يحصل عليه، و"الطالب" الذي يتخرج فهو يعتقد جازمًا أنَّه لا يحصل على وظيفة من دون ثمن معين، فيروح يتوسل بهذا أو بذاك من أجل الحصول على وظيفة ما، و"المريض" لا يدخل على الطبيب بتسلسله أو متخطيّا التسلسل، من دون ثمن، و(الطبيب) نفسه لا يقتنع بالكشفية العالية؛ فهو يعقد صفقات من أجل الاثراء الفاحش، مع الصيدلية من جهةٍ، والمختبر من جهة ثانية، والأشعة من جهة ثالثة، وربما هناك جهات أخرى. وهكذا بدأت تتفشى ثقافة (هات وخذ) في المجتمع تفشي النار في الهشيم ، ولم يعد المفسدُ خجولا من فعلِه هذا، فقد يبرره تحت عناوين شتى؛ منهم مَنْ يعدُّهُ أمرا مشروعا؛ لأنَّهُ يوفر فرصة عيشٍ لطالب الوظيفة مثلًا، فلولاه لما استطاع أن يحصل عليها.
وهكذا صارت الرِّشى والفساد الاداري والمالي جزءا من منظومة تفكير المجتمع؛ بل نجد منهم مَنْ يدفع الاخر للوقوع باشراك الفساد؛ إذ إنَّ المجتمع يشيع بين أوساط الشباب انهم لا يحصلون على وظيفة من دون ثمن؛ لذلك عليهم البحث عن سبل ملتوية، واذا ما وجدوا أحدهم حصل عليها بشكل شرعي، فانهم يشككون بشرعية ذلك، ويعدون ذلك نسجا من الخيال. وهكذا ينتشرُ الفسادُ في المجتمعِ؛ بل إن الطبقةَ السياسيةَ نفسَها حين دخلت العمل السياسي لم تصمد أمام إغراءات المنصب والاموال التي تحت سلطته، ولأن كثيرًا منهم ينطلق من ثقافة دينية، فأنه راح يشرعن سرقاته، ويبحث عن طرقٍ يظنُّ أنَّها شرعية في الحصول على الأموال، لإقناع نفسه بسلامة موقفه، أو أنه تحت تأثير هذه الطبقة الفاسدة يحاول الركون الى رؤاهم حين يعدون الحصول على بعض الاموال بطريقة(القمسيون) بأنَّها شرعيةٌ؛ لأنَّهم لم يفعلوا سوى تسهيل الأمور ، وأن ما يتقاضونه برضا مَنْ يكون العمل لصالحه، فهو لا يأخذ من أحد من المواطنين شيئًا ما الا بموافقته ، ناهيك عن العقود، وما إلى ذلك... وهذا لا يتم الا بمباركة المجتمع نفسه الذي يحاول أن يزين الاشياء القبيحة، ويضفي عليها الشرعية.
وهكذا نجد أن المجتمعَ نفسه لم يقاطع المفسدَ ويعرِّيه أمام الناس، أو على الأقل يشعره أن ما هو عليه من بحبوحةٍ عيشٍ مصيرها الانتهاء؛ لأنَّها قامت على السحت، وهو ما يشعر الآخرون بأنَّهم على خطأ حين عصموا أنفسهم وأبعدوا أنفسهم عن هذا الطريق المنحرف. بل منهم من يدفع هذا المسؤول أو ذاك الى قبول الرشى والخوض في غمار الفساد تحت عنوان (الهدية)، أو هذه حصتك، وغير ذلك. وتذكيره أن مكانه هذا لا يدوم ولا بدَّ من ترتيب أوضاعه قبل فوات الآوان، سمعت مرة أحدهم يقول: إنَّ فلانا ويقصدُ (ضابطا كبيرا) يتقلد منصبا مرموقا بالكلام العامي( انا عرفتُ أنَّه لا خير فيه؛ لأنَّه - إلى الآن- ساكنٌ في بيتِ إيجار) وهكذا نظافة اليد أمرٌ غيرٍ محمودٍ عند بعض الناس، ومثل ذلك ثمة فلان يلوم فلانا لأنَّ كان في موقع ما، ولم يستطعْ أنْ يكوِّن نفسه. وغير ذلك. وبعد، على مَنْ تقع مسؤولية هذه اللون من التفكير الذي بدأ يجتاح مجتمعنا ويترسخ به؟
تقع المسؤولية أوَّلا على المجتمع نفسه؛ إذ عليه أن يحاربَ، مثل تلك الأفكار بعدم احترام من يقوم بمثل هذا السلوك، والا يسايره، ويلبي دعواته، ويشعره بعزلة تامة، وتقع المسؤولية ثانيا، على الإعلام؛ فهو مطالب – دائما – بأنَّ يخلق ثقافة معادية لأي اثراء على حساب المجتمع، وجمع كل الوثائق التي تدين الفاسدين؛ فالفاسد سيلقى جزاءه، فيما يتعظ الاخرون حين يسقط هذا الفاسد أمام المجتمع، وعشيرته، وعائلته، بحيث يصبح حديثا لمن لا حديث له. ولا ينهض الإعلام بهذه المهام الصعبة الا اذا تخلص من هويته الحزبية، وبدأنا نشهد ولادة أعلام حر غير مسيس.
اما الطرف الثالث؛ فهو تفعيل دور القضاء والتأكيد على استقلاليته، وأن تكون الجهات الحكومية، والرقابية، والجمهور، على أهبة الاستعداد؛ لمواجهة حالات الفساد المستشرية؛ فالحكومة والجهات الرقابية ينبغي عليها تحويل كل القضايا الى القضاء، وعدم التساهل معهم، كما أن على المواطن الا يكون محايدا وسلبيّا ويسدُّ فمه وهو على بينةٍ في كثيرٍ من ملفات الفساد .
وبعد ذلك يأتي دور الجهات الدينية بدءا من خطبة المرجعية، مرورا بالمنابر الحسينية، وخطب يوم الجمع في جميع المساجد والحسينيات، لتوعية الناس.، فالمرءُ قد لا يستطيعُ الجلوسَ أمام أحد مهما بلغ من العلم والقدرة على الكلام؛ لكنه يستطيع ان يستمع لمحاضرة دينية تستغرق ساعة ونصف الساعة من دون تذمر، لذلك على اصحاب المنابر توجيه الناس بما ينفعهم في حياتهم، وتشكيل ثقافة لديهم، تمنعهم من ممارسة الفساد بشتى الوانه... وقد يصلُ الأمرُ إلى أن يكون التعدي على المال الحرام، عهرا اجتماعيَّا، وعملا مخلا بالشرف، يعاقب عليه العرف الاجتماعي والقبلي والديني قبل أن يعاقب عليه القانون نفسه.