الصمت حينما يَرى

ثقافة 2019/08/05
...

حسين السلمان
مثلما يحدث في الشعر والرواية ، ومثلما يتجسد في النقد الادبي والفني ،فان المسرح يتفاعل مع تلك المتغيرات ،  بل هو يقود هذا الذي يحدث في عالم الابداع . ولهذا نجد ان هناك مسافة معينة تظل تلازم العلاقة ما بين ما نطلق عليه السرد وبين المسرح. ربما يتم فهم هذه العلاقة بحالة من الغموض في ماهية المسرح ، وهذا يتطلب تغيرا في الكثير من الحالات الدرامية المسرحية .
هكذا يبدو العرض المسرحي (توبيخ) تأليف وإخراج وسينوغرافيا أنس عبد الصمد الذي يحدث في عملية السرد تشابكا للعديد من الأفعال. فالعرض بخروجه عن المألوف ذهب الى تقديم حالة  من الاغتراب داخل البناء السردي .فهذه المدينة (المكان الرمز) لا يحكمها ترابط منطقي، أنها جملة من الشفرات التي تعمل على توطيد المعنى بالحركة .فهي (المدينة ) لا تنتمي لمكان محدد بقدر ما هي تعكس حالة اغتراب داخل الحكاية السردية الصامتة التي تكشف بجلاء كل ما هو قبيح وبغيض في تلك العلاقات القائمة هناك .البناء الذي أعتمد عليه العرض يشكل عنصرا مهما من التقاطعات والمتضادات في داخل البنية الاجتماعية ، وهو لم يأت عبر البناء السردي الصوري فحسب ، بل جاء على شكل رحلات متنوعة تنتقل من حكاية الى حكاية اخرى مجتمعة في بوتقة قابلة للتأويل ، ربما تكون صعبة في الشرح والتفسير .فمشهد الاستنساخ ومشهد المهملات التي فيهما ، قسرا ،تساوت الملفات المهملة التي ترمى كنفايات مثلما هو الانسان الذي يرمى هناك أيضا.
 
تشظي المكان
اعتمد العرض على العزل المكاني وتشظيه في فضاء مسرحي واسع  يمنحنا بعدا فكريا وجماليا .فهذه التوزيعات المكانية للحدث تتقارب مع التوزيع الموسيقي الفاعل في العرض الذي أوجد ترابطا إنسانيا من خلال الوسيط الشكلي ( الديكور ، الإضاءة ، الحركة ، الاكسسوارت  الفاعلة في تضمينها الرمزي ) كل هذه العناصر تتكرر على شكل أعادة مريرة للحياة البائسة  كما جاء نهاية المسرحية  تأكيدا على أن الأمور كانت قاسية مؤلمة ، وهي ذاتها تتكرر مع الأجيال القادمة ( مشهد الطفل وهي حالة استنساخ للرجل).
 
سرد بصري
ان السرد البصري يعمل على أخراج الصورة ضمن سياقها المسرحي . وان هذا يتحقق بوجود متلقي قادر على تحويل الصورة من خطها البصري كلغة الى  الحقل الذهني لكي يتجسد المعنى .لكن في العرض تتمظهر رؤية مغلقة ، قد يرفضها البعض ، ألا أنها ذات مقبولية بسبب عقلانيته توجهها ضمن الواقع الراهن ( سواء في واقع العرض أو الواقع اليومي للحياة الاعتيادية ). 
وارى شخصيا أن هذه  الرؤية هي فعل ترميمي ينتمي لذاته ، وبتعبير اخر ينتمي لذات الكاتب .وهو في أساسه حالة من الارتياب التي تعصف بالإنسان كلما اشتدت عليه الصعاب وفقد الأمل. وهو رمز من رموز الأخفاق الحاصل في بنية المجتمع خاصة في بنائه الفوقي.
أن هذه الرؤية كانت فاعلة في داخل الحكاية الأساس ،لان المكان أصبح فيها تأكيدا على ذروة الصراع وموقفا لانطلاق الشخصيات في تقديم ما لديها من طرق ( إنسانية وغير إنسانية ) من اجل تحقيقها.فالمكان هنا فاعل مثلما هي الشخصية  ، حتى وأن ابتعدت لمسافات بعيدة عن المتفرج (كما في مشاهد عمق المسرح ومشاهد العرض السينمائي ). وهذا يعود الى تلك المهارة والتخطيط الجيد في التحرك والانتقال للشخصيات التي منحت المكان أهمية خاصة .
 
أسئلة الحياة
هنا نشير الى الدقة المتناهية في توبيب وتقسيم  مكان العرض ضمن حالة سردية صورية ، على الرغم من أن بعض الحكايات الفرعية تختفي ناقصة  في مدياتها التعبيرية ، ألا أنها رافد مهم في بناء الحدث العام للعرض .أن هذا التشظي الذي كان متسيدا على العرض هو أقرب الى تشظي الوضع القائم في البلاد (كما أنعكس في حوارات خلف الأقنعة الحيوانية غير المفهومة وكذلك امتزاجها غير المتجانس ) ذهب بها الى تفكيك الكثير من الرموز المتواترة في العرض . وهو هنا يأتي على شكل (مشاهدة ) نطل منها على مدينة تضطرب وتلتهب فيها الأحداث الدموية وتعاني من أزمات متعددة تقدمها شخصيات لا نعرفها بالاسم أو بسماتها التقليدية . هي شخصيات تقترب منا وتبتعد عنا في آن واحد.هي تريد أن نقاسمها المأساة والمكان من دون أن تنطق حرفا واحدا ما عدا الصراخ المكبوت ،صراخ ناتج عن قمع واستلاب ، صراخ يريد أن يقول ما في داخله ، صراخ يحمل في ذاته قوة تعبير إنسانية ، صراخ يريد الخروج من داخل الوحش المذهل الذي يطن في العقول والذي يريد التحكم بكل الأشياء ،صراخ يأتي عبر عرض بصري محاطا بالكثير من الأسئلة ، أسئلة الوجود ،أسئلة التعارض، أسئلة الصمت وأسئلة الرفض معا .