بين الايجاز والإطناب

ثقافة 2019/08/06
...

حسين الصدر 
 
- 1 -
البلاغة كما قيل : هي مطابقة مقتضى الحال 
وقد يقتضي المقام الإطالة وقد يقتضي الايجاز ..
ولكل مقامٍ مقال ...
واذا دار الأمر بين قصيدة طويلة تشتمل على أبيات ضعيفة ، وبين أبيات ليس فيها الاّ العيون ، فالايجاز لاشك هو الأفضل ..
 
- 2 -
ولقد عابوا على (محمد بن حازم) الباهلي – وهو من شعراءالدولة العباسية ومن ساكني بغداد –
عدم الاطالة في شعره فقال :
أبى لي أنْ اطيل الشِعْرَ قصدي 
الى المعنى وعلمي بالصوابِ 
وايجازي لمختصر قريبٍ 
حذفتُ به الفضولَ من الجوابِ
فأبعثهنَّ أربعة وخمساً
مثقَّفة بألفاظٍ عذابِ
خوالدَ ما حَدَا ليلٌ نهاراً
وما حسُنَ الصِبا بأخي الشَّبابِ
وهنَّ إذا وسمتُ بهنَّ قوماً
كأطواقِ الحمائمِ في الرِّقابِ
وهنَّ إذا أقمتُ مسافراتٌ
تهادَتْها الرُّواةُ مع الرِّكابِ
 
- 3 -
ومادمنا نتحدث عن صاحب الايجاز ، فمن المناسب ان نورد شيئا من شعره .
لقد مدح محمد بن حازم الباهلي رجلاً من بني حُميد فلم ينل منه شيئا .
ولم يكتفِ بمنعه من العطاء بل زاد على ذلك بان جعل يفتش شِعْرَه فيعيب فيه الشيء بعد الشيء .
وهذا عمل قبيح حيث قابل الاحسان بالاساءة .
وهنا انقلب محمد بن حازم من مادح الى قادح ، وهجاه هجاءً شنيعاً فقال – في جملة ما قال - :
عدوَّاك : المكارمُ والكرامُ
وخلُّكَ دونَ خُلَّتكِ اللئامُ
إذا ما كانتِ الهممُ المعالي
فهمُّكَ ما يكونُ به الملامُ
قُبُحتَ ولاَ سقاكَ الله غيثاً
وجانبكَ التحيَّةُ والسَّلامُ
وهنا انقلب الحُميدي الى الانسان آخر حيث بعث اليه بمال واعتذار ، وسأله الكفّ عنه فلم يفعل ، وردّ المال عليه وقال –في جملة ما قال :
مَوضعُ أسرارِكَ المريبُ
وحشو أثوابِكَ العيوبُ
 
يا جامعاً مانعاً بخيلاً
ليسَ له في العلا نصيبُ
أَبِا الرشا يُستمالُ مثلى
كلاَّ ومنْ عندهُ الغيوبُ
وسارَ بالذمِّ فيك شعري
وقيلَ لي محسنٌ مصيبُ
مالُكَ مالُ اليتيمِ عندي
ولا أرى أَكْلَهُ يطيبُ
حسبكَ مِنْ مُوجِزٍ بليغٍ
يبلغُ ما يبلغُ الخطيبُ
 
- 4 -
وقد رآى تكبراً مِنْ (احمد بن سعيد) حيث مرّ به ولم يسلم عليه فهجاه قائلا :
وباهليٍّ من بني وائلٍ
أفادَ مالاً بعدَ إفلاسِ
قطَّبَ في وجهيَ خوفَ القِرى
تقطيبَ ضرغامٍ لدى الباسِ
وأظهرَ التَيهَ فتايهتُه
تيهَ امرىءٍ لمْ يَشْقَ بالنَّاسِ
أعرتهُ إعراضَ مُستكبِرٍ
في موكبِ مرَّ بكنَّاسِ
وهو هجاء لاذع 
ويذكرني هذا الهجاء بصنف من الناس ، باعوا الأخلاق وتنكر لاخوانهم بمجرد أنْ حسنت أحوالهم، وتقلدوا بعض المناصب ، ناسين انّ المودة هي التي تدوم بينما المناصب لا تدوم :
قال الشاعر :
وأعزّ ما بيقى ودادٌ دائمٌ
إنَّ المناصب لا تدوم طويلاً 
وكان له صديق آخر ، طالت معه الصلة ثم (نال مرتبةً من السلطان وعلا قَدْرُهُ ) 
فجفاه وتغيّر له فقال يهجوه :
وَصْلُ الملوكِ الى التعالي 
ووفا الملوك من المُحالِ
ما لي رأيتك لا تدوم
على المودةِ للرجالِ
إن كان ذا ذنْب وظرفٍ
قلت ذاك أخو ضلالِ
أو كان ذا نُسُكٍ ودينٍ 
قلتَ ذاك من الثِقالِ 
أو كان في وسط من الأمرين 
قلتُ يُريغ مالي
 
فبمِثْل ذا – ثَكَلَتْكَ
أمّك تبتغي رُتَب المعالي 
( يُريغ : يطلب )
ان الانقلاب على الاصدقاء شيمة الاغبياء ..!!
واذا كان الاشتهار بالهجاء سمة سلبية ، فان الامتناع عن شرب الخمور سمة ايجابية .
وقد جاء في ترجمته :
انه دخل على محمد بن زبيده وهو امير، فدعاه الى الشراب فامتنع، وقال:
-مِنْ جملة أبيات :
أبعد خمسين أصبو      والشيبُ للجهل حربُ
سنٌّ وشيبٌ وجَهلٌ        أمرٌ لعمركَ صَعْبُ
أليتُ أشرب كأسا         ما حجّ لله ركبُ
وما اجمل قوله في الشباب :
لا تكذِبنّ فما الدنيا بأجمعها 
من الشباب بيومٍ واحدٍ بَدَلُ