البصرة والموصل والعراق!

الصفحة الاخيرة 2018/11/09
...

حسن العاني 
 
منذ بضعة اشهر وانا اتابع بحزن، مأساة البصرة تشكو العطش وتشرب الملح والعفونة، استحضرتُ حكاية عمرها أكثر من ربع قرن، رواها لي الصديق الراحل، الزميل العزيز عبدالوهاب النعيمي، يوم كان مديراً لمكتب مجلة "الف باء" في نينوى، ومفادها ان القنصل البريطاني في الموصل، او من كان يمثل بريطانيا العظمى في ثلاثينات او اربعينات القرن الماضي، استيقظ مبكراً على عادته اليومية، لكي يمارس رياضته الصباحية... وقد لاحظ من شرفة منزله، ان المئات من سكان المدينة تتوجه- وكأنها في تظاهرة- الى مكان لم يوفق في الاهتداء الى تحديده، ومثل هذا المشهد الصباحي لم يسبق ان رآه من قبل، ولذلك حاصرته الاسئلة والتخمينات والافتراضات، وهو الامر الذي جعله بحكم مهماته الوظيفية والسياسية يلغي الفقرة الرياضية من جدوله اليومي، ويسرع الى تغيير ملابسه ويغادر المنزل متعجلاً الى مقر عمله، وهناك استفسر من حارس القنصلية، الذي كان يغطُّ في نوم عميق، عن تلك الحركة الجماهيرية في ذلك الوقت المبكر من الصباح، وما اذا كان قد حدث أمر سيئ او لا تحمد عقباه!
يقول النعيمي رحمه الله، ان الحارس ابتسم في سره- لانه من ابناء الولاية- واوضح للقنصل، ان الناس ذاهبة الى فسحة واسعة من الارض، وستلتحق بها اعداد غفيرة من الرجال لكي يؤدوا صلاةً جماعية اسمها (صلاة الاستسقاء)، وكان هذا المصطلح مبعث غرابة جديدة على معلومات القنصل، جعلته أكثر دهشةً او ارتباكاً، لولا ان الحارس الموصلي تولى ايضاح كل شيء، وشرح طبيعة هذه الصلاة التي ليس لها موعد محدد، فقد تؤدى مرة واحدة في السنة، وقد لا تؤدى في خمس سنوات او عشر او اكثر، لان الامر وما فيه يتعلق بالجدب، أي حين ينحبس المطر، ولا تجد الناس ماء لها ولماشيتها وزرعها...
كان القنصل واقفاً على قدميه، يصغي بانتباه شديد الى الحكاية، حتى اذا انتهى الحارس من الكلام، استرخى على مقعده، فقد اطمأن الى نوايا الناس السليمة ثم راح يتأمل فكرة الاستسقاء على مهل، ولأنه لم يجد – في ذلك الصباح المبكر- احداً يحاوره، لجأ الى الحارس مضطراً (وهو رجل أمي بسيط، لا يعرف شيئاً مهماً عن أمور الدين الا على قدر حاله)... وقال له (اسمع حجي ولا تقاطعني.. أنا أعتقد ان فكرة الاستسقاء عظيمة، ولكن الاسلام بحكمته الكبيرة شرّعها لسكان الصحراء والبادية، لان السماء اذا توقفت عن المطر، أمحلت الارض، فلا زرع ولا عشب، وبالتالي يهلك الانسان والحيوان جوعاً وعطشاً، ولكن الذي لا افهمه، لماذا يتوسل العراقيون الى الخالق سبحانه وتعالى كي يهبهم المطر، وهو الذي اكرمهم بنهرين عظيمين وعشرات الانهر الفرعية، فماذا يريدون أكثر من هذا؟!) ويواصل النعيمي الحكاية: وفيما كان الحارس يهز رأسه وهو لا يفقه شيئاً، عاد القنصل الى الكلام (أتمنى ان لا يستجيب الرب لدعائهم، لأن الحكومة العراقية لو أدركت اهمية دجلة والفرات لأقامت مئات السدود والمشاريع الاروائية، واصبحت من افضل دول العالم في الزراعة وتربية الماشية... أنا خائف على العراق اذا ظلت الحكومة تريد من الله أن يسقيها ويطعمها ويكسوها وهي نائمة) ثم غادر القنصلية عائداً الى منزله، ولكن المشكلة اننا لم نستوعب الدرس الذي اخبرنا به هذا البريطاني، لأننا مازلنا حتى بعد مرور 80 سنة او يزيد، نستسقي أو نشحذ الماء من تركيا وايران وسوريا!!