نجوغو مورغان
ترجمة: خالد قاسم
كتب أحد الصحافيين في تموز 1940: "شاهد الكاتب 93 راكب دراجة محلياً يمرون أمام مسرح أسترا خلال أربع دقائق فقط". وبعد مرور 80 سنة تقريباً وعند نفس الزاوية من جادة لويس بوثا وبنفس الوقت واليوم، أي الاثنين الساعة السادسة والنصف مساء، اختفى المسرح منذ فترة طويلة، ولم نر راكب دراجة واحداً يمر بالشارع المكتظ بالسيارات.
ما الذي حدث لثقافة ركوب الدراجات النابضة بالحياة سابقاً في جوهانسبرغ؟ أدت هيمنة السيارات الى تهميش الدراجة بمدن كثيرة حول العالم منذ أربعينيات الى سبعينيات القرن الماضي، لكن تلك العملية تسارعت في جنوب أفريقيا بسبب التمييز العنصري.
وعندما أدت سياسات الفصل المكاني الى نقل السكان السود بالقوة بعيداً عن المدن الى بلدات بعيدة، فالمسافة بين مكان العمل والسكن ازدادت كثيراً وإنهارت الدراجة من الممارسة اليومية.
بعد 25 سنة على سقوط التمييز العنصري لا تزال تلك التباينات المكانية والاقتصادية راسخة داخل المدينة وتستمر بتشكيل كيفية انتقال الناس.
تبدأ قصة جوهانسبرغ عام 1886 مع اكتشاف الذهب، وتدفق المنقبين من جميع أنحاء العالم بحثاً عن الثروة، وتحولت المنطقة الزراعية سابقاً الى مدينة مزدهرة خلال سنوات قليلة.
ضريبة التطور
كان الازدهار الاقتصادي يعني تحمّل السكان سلعاً استهلاكية جديدة جلبت الحداثة، ومنها الدراجات الهوائية. بحلول العام 1900 اشتهرت جوهانسبرغ بكونها مدينة دراجات حقيقية.
كتب صحافي عام 1903: "هناك مدن قليلة في جنوب أفريقيا، أو أي جزء آخر من العالم، حيث يتواجد عدد أكبر من راكبي الدراجات مقارنة مع جوهانسبرغ.
يركب ثلث السكان تقريباً الدراجات، ويمكن القول أن طفل المدينة يتعلّم ركوب الدراجة قبل المشي.
" كانت الدراجات رمزاً للمكانة، فهي سلع استهلاكية أنيقة للأثرياء من أجل التجوّل
والرياضة. ناضلت اتحادات الدراجات للسكان البيض لكسب حقوقهم في الشوارع وابتكرت السلطات الاستعمارية حوافز سياسية لتعزيز
استعمالها.
ودفع مجلس المدينة معونة للموظفين اذا ركبوا الدراجة وصولاً الى مكان العمل، وخططت محطة القطار المركزية لبناء منشأة وقوف دراجات كبيرةـ، ووصل الأمر بنادي راند الحصري الى تشييّد مسند دراجات خاص برواده.
الحرية التي منحتها الدراجة للسكان السود لم يكن مرحّباً بها دائماً، وشنّت نخبة التعدين حملة عام 1905 مطالبة بقانون يشمل كل المدينة، ويشترط على الدراجين السود ارتداء باج على الذراع اليسرى للاشارة الى امتلاكهم رخصة المجلس، بعد استخدام ادعاءات بأن "أبناء البلد" سرقوا دراجات ويقودونها بخطورة؛ لكن سرعان ما تراجعت حكومة الاستعمار البريطاني عن القرار.
غيّر وصول السيارة كل شيء، وكان امتلاك السود لها تهديداً اجتماعياً بالنسبة لسكان المدينة من البيض. لم ينتشر امتلاك السيارة بين السود، فالتكاليف العالية ونقص وسائل النقل العام سببا انتشار الدراجات بسرعة لدى الطبقة العاملة من سكان جنوب أفريقيا، وصارت الدراجات شكلاً واطئ المكانة للنقل عند الفقراء والمظلومين.
مسار لفك الاشتباك
عندما خطِّط مسار دراجات عام 1935 عند جادة لويس بوثا، فقد وصفته سلطات المدينة حلا للسلامة، لكن هدفه الحقيقي هو إبعاد راكبي الدراجات السود عن طريق سائقي السيارات البيض.
مع أن الطبقى الوسطى للبيض كانت قد تخلت عن الدراجات لصالح السيارة، لكن جوهانسبرغ الثلاثينيات هي مدينة دراجات فعلية لأن عمال المناجم والنجارين وعمال التوصيل وغيرهم استخدموا الدراجة للتنقل.
عامل آخر وراء انتشار الدراجة هو قرب المسافة الى مكان العمل، لكن هذه الوسيلة ماتت في جوهانسبرغ بعد 1948 عندما أدت سياسات التمييز العنصري للفصل المكاني الى طرد العمال الأجانب قسراً صوب مناطق نائية، أحيانا أكثر من 30 كم عن مركز المدينة.
وعزز استثمار البنى التحتية بعد الحرب العالمية الثانية ركوب السيارات على حساب البدائل، وشهدت جوهانسبرغ مشاريع كبيرة: توسيع الطرق وبناء طرق سريعة وأنفاق وجسور ومجسرات ومنشآت وقوف سيارات خارج الشوارع.
وبينما خسرت الدراجات مكانتها عبر العالم الغربي بدءا من الخمسينيات، كانت هذه الظاهرة أكثر سرعة وكثافة وأسبق زمنياً في جنوب أفريقيا بسبب النمو الاقتصادي ومستويات امتلاك السيارات العالية بين البيض والانقسامات الاجتماعية العميقة.
غاب ركوب الدراجات وسيلةً للنقل عن شوارع جوهانسبرغ بنهاية التمييز العنصري عام 1994، ولا يشاهد راكبو الدراجات على طرق النقل التقليدية المؤدية الى حي الأعمال المركزي مثل جادة لويس بوثا.
هل تعود جوهانسبرغ مدينة دراجات مجددا؟ مع أن عمدة المدينة هيرمان ماشابا أوقف كل استثمار البنى التحتية للدراجات عام 2016، لكن العمل بدأ بالفعل بجسر جديد للدراجات والمشي يعتلي طريقاً سريعة شيدت خلال الستينيات والسبعينيات لسائقي السيارات
البيض.
اذا كانت تلك الطريق تلخّص قرناً ضائعاً للمدينة من الفصل العنصري ونشاط السيارات، فيمكن رؤية مستقبل المدينة عبر التدفقات المتزايدة للمشاة والعداءين والدراجين والتجار الذين يشقون طريقهم عبر الجسر يومياً بسهولة، عالياً فوق الزحام.
صحيفة الغارديان البريطانية