المدن العراقية تفتقد للميادين والساحات الواسعة

ريبورتاج 2019/08/17
...

عدنان أبوزيد
انفتح العراقيون على دول العالم بعد العام 2003، ثقافيا وسياحيا، ليجد الكثير منهم نفسه، أمام دهشة الفروق الهائلة بين مدن بلادهم وحواضر العالم في مستويات الخدمة والعمران، والتصاميم والانسجام الجمالي والبيئي.
والراصد لوجهات نظر العراقيين، في التواصل الاجتماعي، وحوارات الواقع، يلاحظ بوضوح كيف يلتقط العراقي صورا له في مدن العالم، وقد ارتسمت ملامح الدهشة واسئلة الاستغراب على وجهه، من التطور الذي وصلت اليه الدول، متمنيا بلوغ بلاده هذا الشأو، وأنْ تصبح مدن العراق، حواضر عصرية تبعث على الفخر، فضلا عن تحولها الى أماكن راحة، وجذبها للسواح من داخل البلاد وخارجها.
 
ترصد اللقطات لمدن العراق، ذلك الغياب المفرط للميادين الواسعة، التي أضحت معلما ثقافيا وسياحيا وحضاريا لا غنى للحواضر العصرية عنه، فيما المدن العصرية يقترن اسمها بالباحات المترامية الأطراف، يلتقي فيها أبناء البلد والسواح، في ملتقى للتراث الشفوي والتبادل الثقافي والتعارف وتلاقح الأفكار والفنون.
وقد أمست مدن العالم متاحف مفتوحة بالمجان، تعج بأنواع البشر، واختلاف الأذواق، يتدفق اليها الناس، في موجات داخلة وخارجة، تضفي عليها رونقا أخّاذا، فضلا عن كونها مشروعا اقتصاديا، يدرّ الأرباح الطائلة، حيث المحال التجارية والمطاعم والنصب، و{النافورات}، وأصحاب الهوايات والمواهب.
 
بغداد بلا ميادين واسعة
يقول محافظ بغداد السابق، صلاح عبد الرزاق لـ”الصباح” :ان “تخطيط المدن الاسلامية اعتمد المسجد والسوق معلمين مركزيين تحيط بهما الابنية الحكومية والسكنية. وكان سكان المدينة عادة ما يجتمعون في المسجد في أوقات الصلاة والأعياد حيث يتوفر المسجد على باحة واسعة لهذه النشاطات”. وفي مقارنة مع الأسلوب الغربي في عمارة المدن، يشير عبد الرزاق الى ان “التصميم الغربي يحرص على وجود ساحة وسط المدينة تكون عادة امام الكنيسة او البلدية تقام فيها الاحتفالات والكرنفالات والنشاطات العامة وتنفتح عليها المطاعم والمقاهي والمحال التجارية اضافة الى السوق الاسبوعي للأطعمة والالبسة وغيرها”. 
ويرى عبد الزراق ان “بغداد تفتقد الى ساحات كهذه، وقد تحولت ساحة الميدان الى كراج للباصات، وبجانبها سوق اسبوعي للمستعملات، وهذه يمكن تحويلها الى ساحة نشاطات عامة، كما يمكن تحول ساحة التحرير او حديقة الامة بعد تأهيلها، لتكون بمثابة ساحة احتفالات وليست تظاهرات”. 
ويتابع القول: “في المنصور، يمكن تحويل ساحة الرواد الى ساحة عامة بعد تحويل الشوارع عنها وتأهيلها ورصفها وتأثيثها”.  ويقترح محافظ بغداد السابق ان “تقوم امانة بغداد بإنشاء ممرات للمشي في المحلات السكنية، فضلا عن شوارع خدمية، ومسالك قرب نهر دجلة لممارسة رياضة المشي، مجهزة بالإنارة”.
 
ساحات حديثة 
وبعيدا عن الساحات التاريخية التي يعرفها القاصي والداني، وتعج بصورها المواقع الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، فانّ هناك ساحات عصرية لم يمض على اقامتها بضع سنوات، حريّ بالمهتم التعرف عليها، باعتبارها من مدن الجيل المقبل، فيما التمنيّ يراود العراقي في ان تكون بلاده من ضمنها، اذا ما احسنت الجهات المعنية التخطيط والإدارة.
فقد حرص المهندسون المعماريون، على الاستخدام الذكي للمساحة في الميادين الحيوية التي انشأت حديثا، مثل ساحة “دواجنن اين هايت”، في هامبورغ بألمانيا التي تتوفر على قاعة فخمة للحفلات، فيما توفّر الساحة المرتفعة المزودة بأجنحة زجاجية، بانوراما، تعكس مشاهد خاصة في المكان، لتصبح هذه الساحة في خلال سنوات أحد أشهر مناطق الجذب في أوروبا، واعيد بناء ساحة الشعب في شنغهاي في الصين، العام 1993 على أنقاض حلبة سباق الخيل و تضم نافورة مياه تبلغ مساحتها 320 مترا مربعا ويحيط بها متحف شنغهاي والمسرح الكبير. 
وفي ريو دي جانيرو في البرازيل، كانت منطقة “بورتو مارافيلو” تشتهر بأنها غير آمنة ومهجورة، قبل إعادة اعمارها، لتتحول الى مركز ترفيهي وثقافي، وفي لاس فيغاس في الولايات المتحدة الأميركية، تشتهر منطقة “لاس فيغاس سترب”، بإمكانياتها الترفيهية غير المحدودة منذ العام 2016، وأنشأ المستثمرون فيها مركزا ديناميكيا للمشاة فيما هياكل الظل المثالية تخفف من حرارة 
الصحراء. 
 
غياب التخطيط العمراني
يعترف عضو مجلس محافظة بغداد سعد المطلبي، في حديثه لـ”الصباح” بعدم وجود تخطيط عمراني في العراق، مشيرا الى ان “آخر دراسة كانت العام 1970 وانتهى مفعولها في العام 2000”.
ويرى المطلبي ان “مشاريع الميادين الواسعة، ربما تكون غير مناسبة في العراق، بسبب الجو المتطرف، الذي يسود معظم فصول السنة”، معتبرا ان “هناك عوامل اجتماعية وسكانية، فضلا عن الثقافات الاجتماعية السائدة، سيكون لها تأثير في نوعية وجدوى أي مشروع حضري في العراق، وعلى تطوير المدن بشكل 
خاص”. 
لكن المهندس المدني قحطان خيال، يقول لـ”الصباح”: ان “هناك حاجة ماسة الى ازالة الأحياء القديمة التي يصعب تأهيلها وتحويلها الى ساحات كبرى 
وميادين. 
واعتبر قحطان ان “مدن العراق إذا ما ارادت ان تتحول الى حواضر عصرية، فان تهميش المناطق الصناعية والمعسكرات، والكراجات الكبيرة عنها، أمر لابد منه، لإعادة استثمارها في التصاميم 
العصرية”. وفي هذا الاستعراض فان الاشارة السريعة الى ساحات العالم المعروفة عالميا سيكون مفيدا، كتجارب ناجحة يمكن للجهات المعنية في بغداد والمدن، الاقتداء بها والاقتباس منها، مثل ساحة “بلازا مايور”، في قلب مدريد بإسبانيا، والتي تستضيف مصارعة الثيران، ومباريات كرة القدم، وكم هي الحاجة في بغداد الى ساحة مثل “الطرف الأغر” في لندن التي تخلد المعركة الشهيرة التي انتصر فيها اللورد
نيلسون على نابليون العام 1805.
 
ساحة التحرير
تغيب الساحات المفتوحة في العراقِ، حتى عن الاماكن الدينية المعروفة التي تجذب آلاف الزائرين سنويا، كما تحاصر البنايات والمشاريع التجارية والمساكن، المراقد المقدسة والمساجد التاريخية، في انسداد الأفق، وتشويه المشهد العام. 
وعلى هذا النحو لا يمكن مقارنتها عمرانيا، بساحة القديس بطرس أمام الكاتدرائية المسماة بالاسم نفسه في الفاتيكان، والتي تتسع لنحو 200 الف شخص، فيما الزائرون للمراقد المقدسة في العراق، يبلغون اضعافا مضاعفة مقارنة بهذا 
الرقم.
كان يمكن لساحة التحرير في بغداد، أنْ تتحول الى “ساحة حمراء” عراقية، كالتي في العاصمة الروسية موسكو، تتعدّد فيها ألوان الفرجة التي يقوم بها فنانون شعبيون وموهوبون، وباعة متجولون، لكنها ومنذ تأسيسها تنتقل في مراحلها التاريخية من الفناء الواسع الى الفضاء الضيق، لينتهي بها الامر الى رقعة صغيرة الحجم، لم تعد تشكل أهمية حضارية او فنية، او سياحية على الرغم من كونها، أقدم الساحات في الشرق الأوسط.
العراق، في امسّ الحاجة الى استراتيجية تتبنى رسم فضاء جديد للمدن المغلقة على نفسها، فلم تعد نظريات العمران في العالم تعبأ للأبنية العالية، وناطحات السحاب، ومراكز التسوّق والمولات، بقدر تشييد الساحات المفتوحة على شكل متاحف وملتقيات ثقافية 
وتعليمية.