لا ادري ان كان احد ما قد اجترح صفة (النص المراوغ) من قبل؟ بيد ان قراءتي لنص الشاعر عارف الساعدي هذا قد اوقدت في ذهني هذا الوصف اذ رأيته انسب ما يمكن ان تسمى به مثل هكذا نصوص شعرية.
هذه النصوص التي تتعرى امام القارئ مبرزة امام عينيه كل مفاتنها حتى يخيل اليه انه قد رأى كل شيء او استمتع بكل جمالياتها واستنفذ كل ما فيها من ادهاش، بيد انه كلما اعاد النظر اليها بانت له مجاهيل اخرى ومغريات لم يكن عرفها من قبل، ليس ممانعة دلال بل هي اكتناز بإغراءات ادهاش
لا تنقطع.
ففي زحمة ما نقرأه من نصوص شعرية، هنا او هناك، قد نتحسس عطرا منعشا من نص ما فيعلق في ذائقتنا لبرهة من الوقت ثم يتسرب كما يتسرب الماء من بين الاصابع او ينشف و يتبخر بفعل منشفة نص آخر او حرارة انشغال في ظرف طارئ بيد ان هناك نصوصا تترك وشما على صفحات الذاكرة وفي خلجات النفس كتلك الوشوم المطبوعة على اجساد النساء القرويات ايام كانت الوشوم هي الزينة الاساسية للعرائس، وشوم القرويات تلك تصنع بتفاعل مادة الكاربون الملتصق على اواني الطبخ او ما نسميه بـ(السخام) والدم المنبعث من وخز الابرة مصحوبا بالألم. ولعل من بين هذه النصوص الجديرة بهذا التوصيف هو نص الشاعر عارف الساعدي الموسوم بـ (مدونة الحياة) من مجموعة (مدونات) الصادرة عن دار ضفاف ومكتبة عدنان عام2015.
هذا النص الذي هو بمثابة رؤية استشرافية لمسيرة حياتنا، ولكنها رؤية متفاعلة مع الالم ونزيف المشاعر. هذا يتيح لنا ان نصف شاعره بـ (الشاعر الرائي)، هذه الرؤية التي تنساب بين مسامات احاسيس القارئ؛ لتتوغل وتتشابك مع خلاياه صانعة رعشة دهشة وخوف من استقرائها للمستقبل الذي ينتظر الاباء. انها الرؤية الصادمة لأولئك المشغولين بمفردات حياتهم حد الازدحام دون ان يشعروا بمن كان مشغولا بهم:
“ مشغولٌ جداً
يا ألله
كم أنا مزدحمٌ بهذه الحياة
وكم هي ضاجّةٌ بي
ممتلئٌ بها
بصخبها
بتعبها
وبحلاوتها
مشغول جدا
أقولها متعبا
لكلِ الوجوه التي تسألُني
أين أنت؟”
هكذا هو حاضرنا المحاصر بهذه المشاغل المتعِبةِ واللذيذة في آن واحد، بيد ان هذه المشاغل ما تلبث ان تتلاشى كما تتلاشى السراب كلما عدونا باتجاهه واقتربنا من افقه:
“ كيف لهذا المشغول جدا
أنْ يستيقظ في يومٍ من الأيام
وهو بلا شغل
المشغول جداً
لم يعد يحتاجه أولاده لشراء الحلوى
ولم يعودوا يبكون على صدره
المشغول جدا فائضٌ عن حاجة أولاده
لم يطلبوا منه الماء منتصف الليل
لأنهم في غرفٍ بعيدة عنه”
وهكذا تتضح حقيقة ذلك السراب الزائفة، عندها سيفتح عينيه على اتساعهما فلا يجد غير فراغ هائل يحيط به :
“ها هم الان
يتندرون على شيبه الكثيف
ويسخرون من مزاجه في الأغاني
أين ذاك المشغول يا رب
أين ذاك الذي يتسلَى بالوقت
حين يكون مشغولاً
ها هو الوقت يتسلًى به الان كما يشتهي
لم يعد يردد كلمة مشغول
لأنَ هاتفه النقال
بدأ يخلو شيئا فشيئا
من الأصدقاء
هو يحتفظ بأرقام أصدقائه الموتى فقط”
هذه الحقيقة التي تبدأ تتجسد امام عينيه رويدا رويدا لتكشف بعد حين وجهها المرعب، ذلك الوجه الممتلئ قبحا ودمامة، وجه الفراغ السحيق الذي سيخنقه بضجيجه القاتل:
أصدقاؤه الخمسة الاف في الفيس بوك
مات الكثير منهم
وضاع الكثير أيضا
وحذفه الكثير
الفيس بوك انقرض تماما
ليس في فضائه الموحش سواه
وثلاثة أصدقاء آخرين
ينشرون كلَ شهرين
صوراً تعود لأربعين سنةً مضت
فيرى ثلاثة لايكات
ويقرأ تعليقين
“شباب دائم”
يضحك طويلا
ويغلق صفحته
ولا ينام.”
هذه الرؤية التي يدونها عارف الساعدي بنصه الباهر هذا، هي ليست مدونة لحظة او زمن معين بل هي رؤية تستلهم صورها من ازمنة متعددة وتبثها لأزمنة متعددة ايضا.
لم يكن عمق الرؤية الاستشرافية هي الميزة الوحيدة في هذا النص بل انه ينطوي على جماليات متعددة، لعل من بينها تلك اللغة المنسابة بعذوبة ساحرة، وتلك الموسيقى التي يستشعرها القارئ تعزف في داخله مثلما يستشعر النهر موسيقى الماء الذي ينساب فيه، انه نص يتعرى امام القارئ منذ اول وهلة بيد انه يبقى محتفظا بقدرته على رسم الدهشة كلما اعدت قراءته.
انه في الحقيقة نصر مراوغ لأنه يمتلك عمقا ليس في محتواه فحسب وانما في ما يتركه في نفس القارئ ولذلك فانك كلما ظننت انك استنفذت ما فيه من عمق جمالي لاحت لعينيك اعماق جمالية اخرى، كفيلة باغوائك للبحث عنها والمسير اليها، ومن هنا فإنني ارى ان اجتراح صفة ( النص المراوغ) تنطبق عليه بشكل
كبير.