الأقلية الهائلة وحصار التفاهة

ثقافة 2019/08/17
...

زعيم نصّار
في بدايات القرن العشرين، طـُرحت مصطلحات المجتمع الشعبي، ومصطلح الثقافة الشعبية. فقد أورد روبرت رادفيلد أن المجتمع الشعبي ” نمط مثالي “ او أنموذج مجرد يحمل صفات وخصائص مجتمع تتعارض مع صفات أو خصائص المجتمع الحضري الحديث. 
المجتمع الشعبي، على هذا النحو، مجتمع بسيط منعزل، تسوده الأمية والتجانس، ولدى اعضائه إحساس قوي بالتضامن الجماعي والسلوك السائد فيه من النوع التقليدي والتلقائي والشخصي، ولا يوجد فيه تشريع، وتـُقّـَـدّم العلاقات والنظم القرابية كفئات أنموذجية تـُحتذى، وتكون الجماعة الأسرية هي وحدة الفعل
 الحقيقية. 
ويسيطر كل ما هو خرافي فيه على ما هو علمي، ويعتمد الانتاج الاقتصادي فيه على المكانة أكثر من اعتماده على السوق، وبالتالي ليس فيه تقسيم عمل دقيق.
 نستخلص من وصف رادفيلد للمجتمع الشعبي « الريفي «، وغي روشيه في كتابه الفعل الاجتماعي، أنه نقيض للمجتمع الحضري « المديني»  ويتصف بعلاقات ما قبل السوق وبغياب العقلانية، 
وأميتها السائدة. 
 
فضاء بلا كتابة
ومن سلوكيات هذا المجتمع حتى هذه اللحظة الأخذ بـ»الثأر» الذي نعتبره عادة سيئة وفعلا لا اخلاقيا ومن معتقداته انه يفسر الظواهر الطبيعة كخسوف القمر، والفيضانات والاعاصير بمخيلته القديمة وكأن عقله نتاج لأساطير الخلق السومرية والبابلية، لهذا نرى ان الثقافة الشعبية منعكسة في مجتمع شعبي
 تقليدي.
 وتتسع لتشمل المفاهيم والمعتقدات، والتقاليد كسلوك وطقوس، والنتاج الأدبي باللهجة المحلية كإحدى ادوات التعبير التي تنتقل شفاهاً في الحياة اليومية، اننا نجد جذور الثقافة الشعبية الأقدم في المناطق الأكثر فقرا وانعزالا، مناطق شفاهية بلا كتابة، وما دليلي في ظل دولة مركزية قادها دكتاتور أهوج الا استخدامه القصيدة الشعبية وشعرائها الشعبيين، وكل ما هو شفاهي في خدمة حروبه وحصاراته، وتمجيد انتصاراته، ومن ومضات تخلـّفه، انه وضع القبيلة او احد افرادها مسؤولا امامه بقوته وبعدد سواعده المقاتلة، وضع العشيرة فوق الجامعة وعلمائها، فغابت المختبرات والمدارس والمكتبات والكتب، وأصبحت المضائف والمجالس والشفاهيات، والحكايات الساذجة، 
والنكات المضحكة والحزورات المحيرة هي الزاد الوحيد للأكثرية المغلوبة على امرها، فمنذ أن رفع شعار» محو الأمية «، وشعار « للقلم والبندقية فوهة واحدة» ، حتى اشاع بيده الملطخة بالدماء الثقافة التافهة المحكية، على الثقافة
 العالمة المكتوبة. 
 
الأميّ الثانوي
الجميع يعلم ان الهدف الذي سعى اليه الدكتاتور من وراء شعار محو الامية لا علاقة له بالتثقيف والتعليم، بل وضع العلم والثقافة تحت مراقبة الجيش والمخابرات والاستخبارات لتخريج المخبرين وكتـّاب التقارير، فكل الذين عملوا معه تحت هذا الشعار لم يكونوا سوى أدوات لصناعة الموت والقتل والتعذيب، أو للعمل معه في اجهزة المراقبة والمتابعة 
والتجسس. 
فاضطهد كل الذين لا يرقصون على طريقته، وجعل من التعليم اضطهاداً، ومن الثقافة بربرية، وبهذا هيمن الأمي الثانوي في زمنه المرعب والقاسي على الثقافة والناس. هذا الأمي الذي تعلم القراءة والكتابة في مراكز محو الامية ومدارس الطاغية، ويصف الشاعر الالماني هانس ماغنوس إنتزنسبيرغر هذا الأمي الثانوي وصفا مضحكا: « فهو يعيش حياة سعيدة، ذلك ان فقدان الذاكرة الذي يعاني منه 
لا يؤلمه. 
وغياب اي شكل  من اشكال الارادة عنده 
يريحـــه.
كما انه يستعذب عدم قدرته على التركيز على اي شيء من الاشياء، ويعتقد ان عدم فهمه لما يحدث حوله هو ميزة رائعة وهو متحرك، وقادر على ان يتلاءم مع اي وضع من الأوضاع، وهو يمتلك قدرة خارقة على ان يفرض نفسه وعلى ان يجتاح كل مكان بحيله وتفاهته، ويكسب الحرب دائما، ويصنع أوقاته 
في عصر التسلية. 
 
حصار التفاهة
هذا الأمي الشفاهي وجد ضالته في الشاشات التلفزيونية، فدخل وبث تفاهاته من النكات والحزورات والطرب الرخيص والرقص المشوه الذي يشبه اهتزاز المصعوق بتيار كهربائي، بعد ان انجز انتصاراته في حل الكلمات المتقاطعة وقراءة الابراج، وما جعل الأمر كارثيا حقا هذا الانفتاح الجديد على الأنترنت والهواتف الجوالة والمدونات، الذي حصل بعد سقوط الدكتاتور بعد أن أعد أفواج الأميين لهذا  اليوم الاسود، فاحتلوا المراكز الاكثر اهمية في الثقافة والاعلام، ودخلوا مجال السياسة ومجال الاقتصاد، ومما أتذكره في هذا السياق من كتاب سقوط النخبة للغذامي قضية  كاريكاتير جريدة الجزيرة الذي أظهر صورة للكرة الارضية وقد كتب عليها عبارة « العالم العربي» وعلى رأس الصورة تتربع فتاة متزينة بأحلى زينة، وكتبت بجانبها عبارة « هل الطرب « وبدا من تحت الصورة رجل مسن 
وقد كبست عليه الكرة الارضية وبدا مسحوقا ومحطما ويمتد من عنده سهم يشير اليه بعبارة « أهل العلم والأدب» لقد ظهر هذا في اعقاب  حفلة مسابقة « سوبر ستار» حيث بدا الرقص والطرب عاليا والعلم والأدب مسحوقا في الاسفل، كما يصور الكاريكاتير، ما جعل الشاعر الراحل ممدوح عدوان ان يصرح لجريدة اليمامة: « لقد غيـّب صوت المثقف والثقافة الحقيقية، وكرس صوت التفاهة، نحن نعيش حالة 
حصار التفاهة.
 
خواص الأقلية
المثقفون الحقيقيون هم الأقلية الهائلة كما يسميهم الشاعر الاسباني خوان رامون خمينث العظيم. هم اهل التدوين 
والتكوين.
هم أهل الثقافة العالمة العارفة، هم الخواص، أهل المضنون به على غير اهله، الذين لم يجدوا حماة لثقافتهم ومعارفهم من الفساد، فظنوا بها على الأميين الثانويين الذين يستخدمونها لتسلق حبال السلطة والانتهازية والتسلية، هم لم يقنطوا حتى هذه اللحظة، سوف يبنون مؤسسات جديدة للتعليم والعلوم والثقافة والأدب، ويعيدون دورهم النقدي وحفرهم الجذري، هم الشعراء الانقلابيون، والاشراقيون والروائيون والمسرحيون والموسيقيون والرسامون، هم
 القراء الافذاذ.
 قراء الشعر سواء كانوا كثرة أم قلة لم يشكلّوا أكثرية في المجتمع، وهذا ينطبق على العلوم والفلسفة التي كانت على الدوام صناعة الأقلية، ولكنها الأقلية الهائلة، وهذا ما يؤكده ايضا اوكتافيو باث في مقالته «القلة 
والكثرة» 
 بقوله: إن تاريخ الأدب في الغرب، وفي العصر الحديث بشكل خاص، قد كان تاريخ أقلية أنهم كتابٌ ونقاد وفنانون تمردوا على الأوضاع السائدة وابتكروا أشكالاً جديدة استعصت على الفهم في البدايات، 
مشيرا الى أنَّ قراء الشعر الحديث سواء كانوا كثرة أو قلة يظلون هم رأس المجتمع وقلبُه لأنهم نواته المُفكِّرةُ
 والفاعلة.
 الاقلية الهائلة هم اصحاب الكتب - التخوم، والرؤى البارقة، في كل عصر يخلقون ابداعا جديدا مختلفا ليس مشاعا ولا مباحا الا لمن أراد الارتقاء بفنه ومخيلته وعقله وجسده، وكان من الاحرار في الاختيار والاختبار، حيث الثقافة
 تحرر الانسان.