باكستان والسعي لتحسين العلاقات مع أميركا
بانوراما
2019/08/18
+A
-A
عريف رفيق
ترجمة: بهاء سلمان
زار رئيس وزراء الباكستان عمران خان واشنطن في شهر تموز الماضي، حيث التقى لاعب الكريكيت السابق والمتحدث الصريح صاحب الشخصية الجاذبة بشخصية أخرى مثيرة للجدل: الرئيس دونالد ترامب. وجرى التحضير لزيارة خان منذ بداية هذا العام، لكن لا مفاجأة بعلمنا لتأريخ ترامب العدائي تجاه باكستان، وبضمنه تغريدته في اليوم الأول لسنة 2018 حينما قال إن "باكستان لم تعطنا سوى الأكاذيب والخدع برغم تلقيها أكثر من 33 مليار دولار كمعونات منا."
مشاعر الرئيس الأميركي تجاه باكستان عكست أيضا من خلال ستراتيجية إدارته لمنطقة جنوب آسيا، حيث عرّفت باكستان بالقوة المزعزعة للاستقرار في افغانستان والهند، وتصوّرها كعائق للمصالح الأميركية في المنطقة. وكشف ترامب ستراتيجيته لجنوب آسيا في موقع للجيش بالقرب من مقبرة آرلنغتون الوطنية شهر آب 2017، فأثناء خطاب حول الستراتيجية، نوّه الى "امكانية باكستان كسب الكثير من مساعدة الولايات المتحدة بالشأن الأفغاني، وخسارة الكثير من خلال استمرارها بإيواء المجرمين والارهابيين." ومع هذا، تحتوي الستراتيجية على عدة جزرات وعصي كثيرة، بلغت جهود إرغام باكستان على تغيير سياساتها تجاه افغانستان والهند.
بالتالي، تطرح زيارة خان الى واشنطن الأسئلة التالية: لماذا تحصل الزيارة؟ ماذا تغيّر لجعلها ممكنة؟ وهل حققت ستراتيجية ارغام باكستان أهدافها؟ عندما يتعلّق الأمر بافغانستان، فالتغييرات الأكبر قدمت من واشنطن، وليس من اسلام آباد، فحتى قبل تسلم منصبه، أفصح ترامب بوضوح عن شعوره بكون حرب افغانستان تمثل جهدا خاسرا وضائعا، وبقيت تلك المشاعر تسير ببطء خلال أوقات كثيرة من السنة الأولى لرئاسة ترامب مع اعلانه لستراتيجية حرب أفغانستان.
وخلال خطابه شهر آب 2017 حول ستراتيجية جنوب آسيا، قال ترامب إن "غريزته الأساسية أشارت له بالانسحاب من افغانستان"، لكنه بدلا من ذلك قرر زيادة نشر القوات وعدم تحديد جداول زمنية، منتقدا الزيادة الزمنية المحددة لأوباما في افغانستان.
ورغم تواصل الإدارة الأميركية بتصعيد الغارات الجوية والأرضية المستهدفة لعناصر طالبان، مؤدية لوفيات غير مسبوقة بأعداد المدنيين، سرعان ما تبدد التزامها بحرب مفتوحة النهاية؛ فمع حلول آذار 2018، طلبت "أليس ويلز"، الدبلوماسية الأميركية الرفيعة في جنوب آسيا، طلبت علانية من حركة طالبان البدء بمفاوضات مع حكومة كابول. لا تزال الحركة ترفض فعل ذلك، لكن سرعان ما بدأ الحوار الأميركي الطالباني، ونسبة التقدّم التي حققها الطرفان تشير الى التماس الإصرار الأميركي بتأمين إتفاق مع طالبان.
تحرّك دبلوماسي
بدأت ويلز خلال تموز 2018 محادثاتها المباشرة مع طالبان. وفي الخريف، عيّنت ادارة ترمب الدبلوماسي المخضرّم زلماي خليلزاد كمبعوث خاص لمحادثات السلام الأفغانية، وبطلب منه، أطلقت المخابرات الباكستانية سراح نائب زعيم حركة طالبان ملا بارادار المعتقل لديها. أعطت كلتا الخطوتين الطرفين المتفاوضين المصداقية، مقرّة امتلاكهما موافقات القيادة الأميركية العليا وزعامة الحركة، ومشيرة الى وصولهما لمرحلة ما بعد الاستكشاف والتجريب. اطلاق سراح بارادار، علاوة على إدانة باكستان اللاحقة للعنف المستمر في افغانستان، هي أمثلة على أن الدبلوماسية الأميركية، وليس الإكراه، عدّت بمثابة الوسيلة الأساسية لتقدّم المحادثات مع طالبان.
ومع ذلك، لم تكن تلك الدبلوماسية هادئة على الدوام. في بداية شهر نيسان الماضي، دعا خليلزاد علنا كل من باكستان وقطر الى ادانة هجوم طالبان الصيفي، وبعد نحو اسبوعين، أدانت باكستان بدلا من ذلك "موجة العنف في افغانستان من جميع الأطراف"، وأنها "لن تكون طرفا في أي نزاع داخلي في افغانستان بعد الآن." وكان هذا تنازلا مهما من باكستان، لكن بمسمياتها الخاصة.
بحلول الربيع، بدأ المسؤولون الأميركان تغيير نبرتهم حول باكستان، مشيرا الى تقدير الاجراءات المتّخذة من قبل إسلام آباد، المعلنة والسرية، لدعم الحوار بين أميركا وطالبان. خلال آذار، قال ترامب أن واشنطن تخطط للتلاقي مع اسلام آباد: "أعتقد أن علاقتنا حاليا جيدة جدا مع باكستان،" وبقوله "مع باكستان" قصد ترامب بشكل واضح عمران خان. ويبقى رئيس البيت الأبيض يعمل بحرص للخروج من افغانستان، رغم احتمال تفضيله حاليا للجهد الاستخباري أو تواجد فرق العمليات الخاصة. وقال وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أن بلاده ترغب برؤية اتفاق سلام بحلول الأول من أيلول المقبل، بالتالي، وبدلا من التخلّص تماما من التوقيتات الزمنية، تقف ادارة ترامب على حافة الاتفاق مع جدول زمني للانسحاب مع غريمها، حركة طالبان.
أفضلية الحوار
خروج الولايات المتحدة من أفغانستان، شأنه شأن دخولها، يمر عبر باكستان؛ ومع زيارة خان، فان ترامب يكافئ باكستان على التقدّم الحاصل صوب انجاز تسوية سياسية مع طالبان. وبعناية فائقة، حققت دبلوماسية راسخة، يقودها خليلزاد، نتائج أفضل من الإكراه؛ فكما قلت بإحدى مقالاتي العام الماضي، لن تنجح حالة الإكراه بتغيير سياسة باكستان تجاه افغانستان لسببين: الجغرافية والظروف
المحيطة.
وبغض النظر عمّا يقوله الأميركان، سيحصل الخروج الأميركي من افغانستان، غير المطلّة على بحر، في مرحلة ما، والخروج إياه، مع عدم توقع انفراج في العلاقات بين طهران وواشنطن، يمر عبر باكستان، ماديا ودبلوماسيا. وتعلم باكستان أنه في نهاية المطاف لن تقوم الدول الكبرى بمغادرة افغانستان غير الساحلية فقط، إنما ستترك خلفها أيضا فوضى هائلة، والمخاوف من حوادث مشابهة لما حصل يوم الحادي عشر من أيلول يبقي أميركا في افغانستان. لكن بالنسبة لباكستان، تمثل الحرب الأفغانية مشكلة أمدها أربعين سنة، كلفت إزهاق أرواح عشرات آلاف الباكستانيين (وأعداد أخرى أكبر بكثير من الأفغان)، وهذا هو السبب، رغم المصاعب المالية، الذي يدفع بباكستان لإنفاق مئات ملايين الدولارات لحماية حدودها مع جارتها القديمة.
لم تمثل ستراتيجية ترامب لجنوب آسيا اخفاقا كاملا، فقد تمكنت واشنطن من تطوير وإدامة اجماع دبلوماسي للضغط على باكستان لتوسيع وإبقاء الإجراءات الصارمة المفروضة على المجاميع المسلحة التي تستهدف الهند والمناطق الهندية السيطرة. ومع جذب ادارة ترامب لباكستان كلاعب رئيسي في القضية الأفغانية، سلكت مسارا منفصلا يرغم اسلام آباد على تأدية التزاماتها الدولية لتقييد قدرات مجاميع مسلحة، مثل جيش محمد ولشكر طيبة، من التحرّك على التراب الباكستاني.
تقدم بطيء
في حزيران الماضي، وضعت باكستان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي، وبقيت ضمن ذلك التصنيف. وبينما تفادت القائمة السوداء، من المرجح بقاء باكستان في وضع يقودها الى عواقب وخيمة، ونتيجة لذلك، إتهمت باكستان في تموز مؤسس مجموعة لشكر طيبة حافظ سعيد بتمويل الارهاب عقب حظر منظمتيه الخيّريتين بوقت سابق من هذا العام.
ونجحت سياسة باكستان المفروضة بالإكراه على المجاميع المسلحة المضادة للهند لعدة أسباب. أولا: هناك إجماع عالمي بكون هذه المجاميع تمثل عناصر سيئة، وعلى النقيض، عندما يتعلّق الأمر بطالبان الأفغانية، فالقوى الاقليمية مثل الصين وروسيا، علاوة على حلفاء الولايات المتحدة مثل بريطانيا، يفضلون التسوية السياسية ورؤية باكستان شريكا أساسيا لتحقيق ذلك.
ثانيا: أميركا، وبشكل أكثر دقة، الدولار الأميركي، يهيمن على النظام المالي العالمي، وواشنطن ماهرة في توظيف العقوبات الاقتصادية وأشكال أخرى من الدبلوماسية الاقتصادية القسرية، ومثلت انتشار العقوبات الاقتصادية الاميركية والعمليات العسكرية الخاصة ميزة لمرحلة ما بعد 11 أيلول. ما عدا العقوبات، وظّفت واشنطن أيضا نفوذها في صندوق النقد الدولي، الذي تسعى باكستان للاقتراض منه، كي تجعل اسلام آباد تواصل جهودها لكبح عمليات حضرّتها مجاميع ارهابية بمستوى عالمي.
بالنسبة لباكستان، ينبغي أن يمثل هذا الحال دعوة للتيقّظ، فلا غنى للعالم عنها حينما يتعلّق الأمر بمشكلة افغانستان، لكن افغانستان فقط. ويعد اقتصاد باكستان الجاري تطويره والمعتمد على المعونات الأجنبية من نقاط الضعف بالنسبة للأمن الوطني، وهذه النقاط الحساسة ربما تزيد، وتحوّل أزمة ميزان المدفوعات الى أزمة ديون. كما يجب على قيادات باكستان العسكرية والمدنية إدراك ان المعاناة التي تفرضها ادارة ترامب على المواطنين الايرانيين العاديين ربما، لدرجة ما، تتكرر في باكستان.
بالمجمل، زوّدت الصين باكستان بشبكة آمنة تنأى بها عن الضغوط الأميركية، لكن التوجه بالاقتراب نحو الصين، وبضمنها توظيف أعلى لصفقات تجارية تعقد بالعملة الصينية، ربما ستعمل على خلق علاقة غير مستقلة أخرى لباكستان تعكس صورة الشراكة المؤلمة مع الولايات المتحدة.
إعادة هيكلة العلاقات
وتحدث بعض المراقبين عن لقاء خان بترامب كونه يمثل فرصة لاعادة ترتيب العلاقات الثنائية؛ لكن ساسة البلدين وزعاماتهما يفتقدون الى رؤية للروابط بين أميركا وباكستان، فجداول أعمالهم تعد سلبية بشكل كبير، وتركّز على كيفية منع الجانب الآخر من أن يكون عائقا لأهدافهم الداخلية أو الاقليمية.
بالفعل، عندما التقى خان بترامب كانت الصين والهند تمثلان شأنا هائلا للغاية في اللقاء. وستكون بكين الوجهة الجيوستراتيجية القادمة لواشنطن، وهناك اجماع في دوائر البيت الأبيض أن الهند، منافس باكستان، ينبغي جعلها مكافئة بالقدر مع الصين في منطقة المحيط الهندي الأوسع. ومع إيقاف الولايات المتحدة لمساعداتها العسكرية لباكستان، وتعميق شراكتها الدفاعية مع الهند، فهي بذلك توسع الفجوة العسكرية التقليدية بين اسلام آباد ونيودلهي، رافعة من اعتماد باكستان على الصين، لتتحمل مرة أخرى العوامل الخارجية الناتجة عن تنافس القوى الكبرى.
وبينما نوّعت باكستان بنجاح علاقاتها مع القوى الاقليمية، وشراكتها الناشئة مع روسيا مثال على ذلك، فهناك حدود لما يمكن أن توفره حالة الافادة من التعددية القطبية. وتبقى أميركا سوقا مهمة للصادرات الباكستانية، ومصدرا محتملا للاستثمارات الأجنبية المباشرة، وهي موطن لجالية باكستانية ناجحة ومتزايدة.
ووجود نظام قطبي ثنائي في جنوب آسيا، مع انحياز الولايات المتحدة والهند في جانب والصين مع باكستان في الجانب الآخر، لا يصب في مصلحة الأميركان ولا الباكستانيين. في السنين القادمة، ستتحرك واشنطن لرؤية حدود تحالفها القوي مع نيودلهي مع مجاهدة الهند لتطوير قاعدتها الصناعية الضرورية لمنافسة الصين اقتصاديا
وعسكريا.
توقعات باضطرابات جديدة
ويبقى في الأفق أيضا احتمالات هيجان اجتماعي هائل يحصل داخل الهند، فمع تخلّي باكستان عن المتشددين، تحتضن الهند الأغلبية الهندوسية؛ وأطلق انتخاب نارندرا مودي رئيسا للوزراء سنة 2014 العنان لحملة أعمال عنف ضد المسلمين مستمرة لغاية يومنا هذا، ترتكبها شبكات مرتبطة بحزب باهاراتيا جاناتا الحاكم. وحظت أعمال العنف بتأييد مودي، حيث اختار راهبا هندوسيا متشددا لمنصب رئيس وزراء أكبر ولاية في البلاد، والذي يرأس مجموعة انتقامية تقتص من المسلمين. وتمهيدا للانتخابات التي جرت هذه السنة، أطلقت حكومة مودي سراح غالبية المتطرفين الهندوسيين التابعين لشبكة ابهيناف باهارات الارهابية، المسؤولة عن قتل أكثر من مئة مسلم وتفجير قطار باكستاني سنة 2017؛ كما اختار الحزب الحاكم "براغيا ثاكور"، كمرشح برلماني عنه، وهو متطرّف هندوسي خرج بكفالة من احدى القضايا الارهابية.
ويمكن لإقرار الصين الرسمي بالخوف من الاسلام (الاسلاموفوبيا) أن يؤثر أيضا في العلاقات مع باكستان، التي أيّدت سياسات الصين بمكافحة الارهاب ومكافحة التطرف في مقاطعة شين جيانغ، حيث شملت اعتقال أكثر من مليون مسلم إيغوري وتركي الأصل؛ لكن بمجرّد اطلاق الصين لسراح هؤلاء المسلمين من معسكرات الاحتجاز، فمن الصعب أن تشهد المنطقة الاستقرار المحاذية لباكستان.
بالتالي، وفر لقاء ترامب مع خان فرصة لمسؤولي البلدين ببدء حوار حول الميادين المحتملة للالتقاء بين الطرفين في الطريق مستقبلا. ويمكن لتسوية سياسية واسعة القاعدة في افغانستان، واجراءات باكستانية مستدامة للتضييق على مجاميع ارهابية عالمية، واقرار من واشنطن بضرورة الاسهام الفاعل باستقرار ستراتيجي في جنوب آسيا، أن تخدم تأسيس قاعدة لشراكة متواضعة، لكن ذات مغزى بين الولايات المتحدة وباكستان.
مجلة ناشيونال انترست الاميركية