انبثاق الصيحة

ثقافة 2019/08/18
...

ياسين طه حافظ
مسار الإنسان الطبيعي كان صنو نظامه الغريزي. يولد ينضج ويلد أو يولِّد. يغذي هذا المسار التلذذ الجسدي الذي تؤججه غدد وفعالية نضج. اتخذ خطه الطبيعي ولم يكن له تفرد أو امتياز الا بتنظيمه أو بالقيام بأفعال تديمه، كبناء البيت والعائلة، وهذه كثيرا  ما انفرطت ولم يُلتزَم بها دائماً من قبائل كثيرة ومن أفراد. هذا النظام تسيره ثقافات قد تختلف مكوناتها ولكن تمثيلها أو مؤدى تغذيتها يبقي النتائج نفسها. 
في هيمنة الثقافات و تحولاتها ، نجد هذا الخط نفسه نجد الشذوذ او الانحراف عنه نفسه. الضيق بالثقافة الفاعلة أدى إلى ابتداع ثقافات خاصة صغيرة جداً – أو فردية. وهذه هي التي تعمل في عقول الكُتاب والشعراء والفنانين عامة وهي، عادةً أيضاً، ذات مذاق وتنوع فردي خاص. 
هذا بالنسبة للافراد. الشعوب بدورها قد تسأم الثقافة المهيمنة فتبتدع أساطيرها وعوالم تريدها بدائل ولو مؤقتة، تريدها مهارب أو ملاذات أو منافي، تصنعها لتستريح وأحياناً لتنجو من الاختناق. 
في عصرنا الحديث حصلت في هذا المجال انتصارات أو تطورات اتخذت بعداً أوسع ومساحات أوسع بحيث طمعت لتكون هي الحاضرة أكثر وسط المهيمنة القديمة. أرادت في أوقات، بل سعت لتكون هي البديل وأكثر لتزيح تلك عن المشهد. 
وهكذا ثقافات “توليدية” اتخذت اشكالا عدة واختلفت مضامينها أيضاً. لكنها عموماً ظلت في المدى الإنساني وان ركزت أو أكدت خصوصيات معينة، فردية كانت أو ثقافات جماعات. الحجوم مختلفة والمساحات التي تشغلها مختلفات أيضا. المهم ان محاولات تغيير المسار محاولات ضخ افكار وارادات جديدة أو مختلفة، استمرت بل صارت احتياجات إنسانية لازمة للتطور. كل الاداب، كل العلوم، كل الفنون اتخذت هكذا ثقافات توليدية أو مستحدثة: مضامينها مختلفة بنسبة ما عن المكونات والمواد الاساسية الاولى ولكن بتلك المسارات أيضاً. 
اكثر من هذا رأت السلطات الاجتماعية في هذه المتغيرات ما ينفعها أحياناً في الاتجار والسيطرة وفي التوسع. وهذه مشكلة ومفارقة، ان تكون التأسيسات المتمردة، الثقافات الجديدة وسائل حكم مساعدة. وهو التفاف تاريخي مكّن منه تطور اساليب الحكم والعلوم والفنون الالية “المساندة”. 
هذه “الفنون” و “الاداب” و “العلوم” القريبة من الرسمي، كثيرا ما اتسعت وضمت لها ثقافات من تلك التوليدية الناشزة، التي تريد تختلف. في التاريخ لصوص كبار يعرفون كيف يسرقون الجهد الإنساني الثوري ويضخونه في مجرى التاريخ الرسمي والذي لا يخلو ماؤه من تدفقات مياه جديدة من منابع طارئة. 
ان دارسي تاريخ الشعوب وتاريخ الاداب والفنون وتاريخ الفلسفة، ألفوا هذه الارتدادات، هذه التقدمات والتشوهات والتراجعات على مدى الازمنة. لكن المحصلة النهائية : تقدم وتطور وتحولات اجتماعية في المجالات كلها، في المجتمع كما في الاداب والفنون والثقافة الإنسانية عموماً.
في عصرنا، شهدنا أمثلة أكثر صراحةً، علنية أكثر، لصراع الاتجاهات الثقافية وقد وصل التضاد حد العدائية بين مضامين هذه الثقافات ولكنها لم تغادر المجال الإنساني، لأنهن في مغادرته نهاية لوجودها. وأظن المسألة واضحة لا تتطلب مني إيضاحاً، فالتاريخ الحديث قريب منا ونعرف احداثه. 
مع ذلك، حصلت في عصرنا ومنذ القرن التاسع عشر، تحديات فردانية، محاولات انفراد وتشرذم “ايجابي”، تمردي من نوع ما. لا نريد ادراج اسماء منها ولكننا يمكن ان نكتفي بمثال لايضاح القصد وسيكون هذا المثال من بيئتنا الثقافية : 
في زمن واحد تقريباً تحول “ييتس” من روح التمرد الوطني الايرلندي الى التأكيد على مزاجه في الروح الاسطوري، تحول من خط التمرد الى صناعة عالم خاص في كتابه “الرؤيا” “The Vision” وهو كتاب غريب عجيب صنع فيه نظاماً فسيحاً لنفسه ولفنه. 
و “كونراد” يقول لنا ان جويس وباوند يقترحان علينا قطع الصلات مع الأسرة والبيت والطبقة و الوطن ومع المعتقدات التقليدية ويريان ذلك الانقطاع ضروريا لبلوغ الحرية الفكرية والروحية. من ثمَّ يطلب منا هؤلاء الكتاب اللحاق بهم والانخراط في منظماتهم الأسمى، وبكل ما فيهما من نظم
وقيم ... 
لكننا في الرد على ذلك، نعلم ان “ييتس” دخل المجلس الثوري الايرلندي عقب الانتفاضة. ونعلم ان “باوند” كان يذيع ادبيات الفاشية الايطالية. 
هذان كانا انموذجين مما قلناه عن التمدد الرسمي على المتمرد وسحبه وضخه في مجراه. ان “كونراد” معاصرهم بيّن لنا، في أفضل أعماله، عقم أمثال هذه المنظومات الخاصة ذوات الانظمة والقيم الآنية.. وسنشهد من بعد صيحة “لوكاش” بأن الوعي الطبقي هو المعتمد لا سواه! لكن الوعي الطبقي الجديد هو أيضاً شكل من اشكال التمرد والعصيان على الرسمي السائد! وهكذا نرى أن التقليدية مستمرة والتمردات تعاود الظهور... و للمقال بقية.