زياد جسام
شهدت السنوات الأخيرة انقلابا كبيرا على المستوى الإبداعي من حيث صناعة الأعمال الفنيّة وإخراجها، اذ سادت اتجاهات كثيرة في الرسم والنحت والتصميم والعمارة وغيرها في إعادة انتاج الفن وفق تأثيرات واستعارات بين المادة والملمس وحتى المفهوم.
لا شكَّ بأنّ إعادة انتاج هذه الخامات وتحويلها الـى اعمـال تشكيليّة مهمّة، يتطلّب من الفنان أنّ تكون لديه موهبة، فضلا عن حرفيّة عالية في التعامل مع الخامات وتطويعها، فهناك أسماء لا تعدّ ولا تحصى من الفنانين حققوا حضورا في الساحات الفنيّة العالميّة، ومن بين هؤلاء التشكيلي قاسم سبتي، فقد تميزت أعماله التجريديّة بأنّها تعتمد الفكرة الجوهر قبل المظهر، علما أنّ الفنّ التجريدي يعمل على الاشكال والخامات والتقنيات قبل المضمون، فقد ركّز الفنان سبتي على توظيف المواد والاشكال التي تنتمي للعالم من
حولنا.
وفي معرضه الأخير الذي أقيم قبل أيام على قاعة حوار للفنون في بغداد "حروفٌ مخبوءة" شاهدنا مجموعة اعمال تجريديّة اعيد عرضها في اكثر من بلد، ونالت استحسان الجمهور والنقاد ، إلّا أن احجامها اصبحت كبيرة وليست باحجامها الحقيقيّة التي عرضت بها سابقا، وهذه الأعمال تعود لمرحلة وثّقها الفنان قاسم سبتي منذ عام 2005 أي في الفترة المأساويّة التي كان يعيشها العراق، فقد كانت آثار الحرب مازالت امام أعين الجميع، سمَّاها "حكاية الموت النبيل" وكتب عنها في فولدر معرضه " أقنعة النصّ" الذي عرض في أكثر من دولة عربية واجنبية، اذ قال عن
الفكرة:
"في المساء وحين يغادر الأصدقاء حديقة الغاليري (حوار في بغداد) وبعد ساعات من الثرثرة اللامجديّة. أتلمس الطريق وسط العتمة الى مرسمي الذي ازدحم بمئات الكتب التي داستها بساطيل الغزاة او بعثرتها أصابع اللصوص
اللامبالية!!
أتذكر جيداً تلك اللحظات المريرة، كان ليل بغداد والمطرز بملايين الشظايا قد تحول الى ما يشبه الجحيم. كنت أنظر بحسرة مشوبة بحزن عميق الى اكاديمية الفنون الجميلة والى مكتبتها تحديداً وقد تحوّلت الى ركام بعد أن أحرقها اللصوص في حفل هستيري أعلنوا فيه انتصارهم على الحضارة! في صباح اليوم التالي كان كلّ شيء قد انتهى وماعدا بعض الكتب التي تبعثرت هنا او هناك لم أكن متأكداً من أنّ شيئا غير عادي سيحدث، كنت أتمشى منكسراً في ممرات الكلية والتي قضيت فيها أحلى أيّام شبابي وانا أجترّ تلك الذكريات عن عشّاقها الذين افترشوا ظلال الاشجار او اختبؤوا في عتمة الزوايا، فجأة لمحت من بين الركام ذلك الكتاب الأصفر الكالح ورحت باصابع مرتجفة أسحبه مزيلا عنه آثار تلك الليلة القاسية لقد كان مليئاً بصور الطبيعة الروسيّة المحبّبة وانا أتفحّصه بارتباك سقط من يدي وحاولت تلقفه كرد فعل لكنّه تمزّق الى جزئين، بقيَ الغلاف بين اصابعي وصار النصّ من حصة الأرض المليئة
بالسخام!".
كانت هذه القصّة التي انفجرت من خلالها فكرة المعرض الذي انتجه الفنان سبتي وما زال يعمل عليه والتي ابتدأت من لحظة لا يريد نسيانها اذ قال "فتحت الغلاف واذا بذلك النسيج القطني المبهر، وقد التفَّ بشغف حول خاصرة الكتاب، يا إلهي! ماهذه الحيوات التي طرزت سطح الغلاف الداخلي، اهداءات، ابيات شعر، ملاحظات أمينة المكتبة كانت مثل كوة أطل منها على تاريخ هذه الاغلفة المنسيّة، وحملته منطلقاً الى مرسمي القريب وكمن يلاحقه هاجس الفناء أمسكت بتلك السكين الصدئة التي رافقتني منذ أمد بعيد، وراحت اصابعي المنفعلة تعمل على اعادة الروح للغلاف الجريح، وبهستيريا لا يحد من اندفاعاتها سوى تلك الخبرات الممتدة الى اكثر من عشرين عاماً مضت من التجريب المستمر وبقيت أصابعي تعمل في كلّ الاتجاهات، وحين ادركت بأنّ ماوجدته بين الركام قد استحال الى عمل فني مذهل أحسست بأنّي قد قبضت على تلك اللحظة التي بحثت عنها منذ لحظة التخرّج من الاكاديمية، لقد أضحى كلّ ما مضى من انجاز ظلالاً او شيئاً آخر لا يمت لي بصلة .. لقد صار الخوف والتمرّد والضجر والغربة والخراب هي المواد التي يتشكّل بامتزاجها العالم السري الذي تنهل منه هذه
الأعمال.
لم يكن الرسم ضالته فحسب لكن شعوره بأنّ هذا النمط من الاعمال إنّما يسعى الى تقشير العالم وازالة مظهره الخارجي والبحث في ثناياه الخبيئة عن أثر للمعان مهمل، وقد حقق ذلك وبجدارة.