{الشهداء الخونة» والصراعات المتداخلة..!

ثقافة 2018/11/09
...

 وجدان عبدالعزيز
 
حينما نقرأ رواية (الشهداء الخونة) للكاتب حسن كريم عاتي، تصدمنا اولى العتبات وهوالعنوان، كونه يحمل غرابة نوعا ما، فلماذا الشهداء؟ ولماذا الخونة؟، فالشهادة قيل عنها: شهد يشهد شهادة، وهي في اللغة لمعانٍ عديدة كالعلم، والحضور، والرؤية، والإعلام، والإخبار، والمعاينة، وقيل إنّما سمّي الشهيد شهيداً، لأنه مشهود له بالجنة بالنص، أو لأن الملائكة يشهدون موته إكراما له، أو لسقوطه على الشهادة وهي الأرض، بينما الخيانة تعتبر واحدةً من أبشع الصفات، التي قد يتصف بها الإنسان، فهي مناقضةً للأخلاق الحميدة والتربية والمسؤولية وللدين أيضاً، وتتنوع مفاهيم الخيانة، ولا نريد الدخول في التفاصيل، انما احاول المقارنة للوصول الى حالة الغرابة التي امتازت بها عتبة العنوان في رواية عاتي، حيث لايلتقي معنى الشهادة ومعنى الخيانة، بل يفترقان داخل صراعات المعالجات التي طرحها الكاتب في الرواية، في وصف الحبيبة له في المتن تقول : (انه شهيد الصمت وخائن العلن).. اذن هناك تبريرات كثيرة في الرواية لهذه التسمية، فالشهداء الخونة، هم الذين حملوا ارواحهم الطاهرة وضحوا من اجل الوطن والحب والجمال، لكن ذهبوا لطريق الشهادة بصمت، بل وبسرية تامة، لذا الكاتب عالج الموضوع بعدةٍ من الصراعات، ابتداءً من صراع الحب.. (إنها تمنحني ارتواءً هائلا، وامانا كبيرا، واثق بها حد منحها شرايين الفؤاد تعبث بها)، والعبارة الاخرى التي تقول : (احبك دون ان افضح سري... فما الحب الا فضيحة المعنى في واحدة الكتمان).. اذن هنا عانى صراع الكتمان، مضافاً الى صراع الحب، وايضا تحت المسار السري، وهناك حالة الاختلاف مع الحبيبة في شؤون العمل السياسي، فكان صراع الاختلاف، وكل انسان وله وجهة اخرى غيرها عند الاخر، ثم يظهر صراع العناية بالشأن العام، يعقبه صراع محاولة التغير، ثم ان هناك في المتن مقالة تقول: (اشكو الموت وانتظره في القفر الفاصل بين وطن انت فيه، ووطن ألجأ اليه)، اي ان البطل يعاني صراع محاولة الهروب من الوطن، لماذا؟ لان هناك معاناة من صراعه من السلطة، هذه السلطة تثير حالة الاقتتال بين افراد المجتمع، اي صراع الاقتتال، (فما سَرى في جسدك، يسري في جسدي الآن)، وهذه العبارة تمثل صراع الهم الانساني الواحد، وتتسلسل الصراعات المرادفة من صراع الطريق، وصراع الخوف، وصراع الألم، وصراع التخوين، وصراع اهتزازات الذات، فكانت الرواية لوحة من الاوجاع المتصارعة.
 
صراع الهويات
 واهم ما يميز هذه الرواية هو صراع الحب، كون المتحابين على قدر من الوعي الوطني، اي يحملان هماً اجتماعياً، اضافة الى هم الوطن والنضال ضد السلطة التعسفية، لكن الحبيب له وجهته في النضال، والحبيبة لها وجهتها الخاصة ويربطهما الحب، ويسود خلافهما تلك الروح الديمقراطية وذلك الصبر، وادار الكاتب عاتي هذه الاحداث بطريقة صعبة جداً، كما اعتقد انها من الصعوبة بمكان، بحيث ان الوعي اخذ يتنامى في الرواية، رغم ان الفترة الزمنية التي تناولها الكاتب الاحداث في النصف الاول من الرواية، تفتقر الى وسائل الاتصال الحديثة الان، وعوداً على ما قلنا سابقاً، يقول المتن : (وجدوه مقتولا على الحدود ....)، فحينما يعجز المناضل عن الوصول الى الهدف داخل الوطن، يلجأ الى النزوح والهجرة الى ارض الواسعة، حاملاً اهدافه ومراميه في صراع التغيير والتخلص من تعسف السلطة، وهنا قد يكون خان الارض، فاستشهد خارجها، فكان وهنا ينشأ صراع الهويات، هويات الافراد والبيوت والجماعات تلظمها هوية واحدة هي الهوية الوطنية.. ويعكس هذا التساؤل الذي تطرحه متون الرواية : هل هو خائن مثلما يقول عنه حميد ارزوقي الموالي للسلطة، ام شهيد مثلما يقول عنه داوود القصير؟ (إنها أقاليم المعنى للبيوت في حكايات صغيرة مستقلة عن بعضها، تبدو مبعثرة، تجمعها بوحدة واضحة العلاقات غير المعلنة في حكاية كبيرة)، واثبت الكاتب ان كائنات روايته الانسانية كلها تتصارع، ما يعكس هذا، كان يحمله المتن بما يلي : (لم يقل حسن ذلك، كان يبني غدي معه على امل الانتصار  المزعوم على الخصوم، معتمداً على يقينه فقط، والذي دفعني وإياه الى نهايتين متشابهتين، فلم يكن العالم بالنسبة إليه، سوى رفيق موافق، أو عدومفارق. نعم لم أقتل، ولكن أي قتل أبشع من أن تسير في طرقات مدينتك ميتاً، وتعيش فيها ميتاً، وتدرك أن ما تعيشه هامش لموت حدث لك قبل زمن ليس بالقصير.)، إنها بحق محنة الصراعات في قطعة الحياة التي قدمتها رواية (الشهداء الخونة).
 
قبول الآخر
 يقول  الروائي المصري جار النبي الحلو: (الروائي لا يكتب التاريخ في شكل مباشر، لكن التاريخ يكون دائماً هو خلفية الصورة، أو المسرح الذي تدور عليه الأحداث أو الموسيقى، التي تعبر عن زخم الموقف. الروائي ليس مؤرخاً، لكنه المعبر الحقيقي عن الإنسان في اللحظات التاريخية، وعن مدى انتصاره أو انسحاقه.)، هكذا يجر الكاتب عاتي متلقيه الى مناطق التناقض، ويضعه على تخوم الانحياز أوالحياد ..؟، فالعالم كله متوتر، يشهد حالة الاضطراب واشعال العداوات، حروب الإرهاب وهجمات التخلف والتهميش، انتهاكات لحرية الانسان، فما هو دور المثقف الواعي؟ هل يكمن في الدفاع عن الوطن والحفاظ عليه فقط؟ أم المشكلة في تبني النظام المثالي الذي تحاول الديمقراطيات تقديمه لحماية الاوطان والحفاظ على ابناءها في دائرة الحوار؟ وهنا يبرز دور الكتابة، الذي سيأتي لاحقاً عقب انقضاء مساحة زمنية، اي الكتابة التي تستوعب الحدث وتستثمره في بناء الحوار وقبول الاخر، مثلما فعل الكاتب عاتي في روايته هذه... ولن تقف محاولاته في ترجمة واقع النضال السري والحب السري، انما اخذ في فقرات الرواية الاخيرة الى ترجمة النضال العلني والحب العلني في تبريرات كثيرة، وكيف ان هذا التحول كان حتمية تاريخية لسقوط الطغاة، وانفتاح الحياة نحو افاق الحرية واكتمال النضوج الفكري، لكن في المقابل هناك مصدات مستحدثة، لابد من محاربتها وبالوعي وحده...
ـ رواية (الشهداء الخونة) للكاتب حسن كريم عاتي/المؤسسة العربية للدراسات والنشر/الطبعة الاولى 2018م