نصير فليح
الديمقراطيون ام الجمهوريون؟ سؤال يتكرر مع كل دورة انتخابات تشريعية او رئاسية في الولايات المتحدة، وتتردد اصداؤه في مختلف أرجاء العالم. لكن نظرة تمعن بسيطة تبين ان الاختلافات الهامة الواضحة بين الطرفين تتجسد في الملفات الداخلية اكثر من الخارجية، الملفات الداخلية مثل الرعاية الصحية، والموقف من المهاجرين واللاجئين، والسياسة الضريبية، اما الفروقات في السياسة الخارجية فاقل
بكثير.
صحيح ان بعض الملفات الخارجية، مثل الاتفاق النووي مع ايران، الذي تم التوقيع عليه ايام اوباما والتراجع عنه ايام ترامب، تمثل اختلافات مهمة وملحوظة ومؤثرة على الاوضاع الإقليمية والدولية بمجملها لا ايران فحسب، ولكن بقية المواضيع المهمة لبلدنا ومنطقتنا، لا يوجد فيها كما يبدو اختلاف ملحوظ الا في الدرجة.
وما يزيد الامر غموضا والتباسا، هو ان الوعود والتوجهات التي يتم اطلاقها قبيل الحملات الانتخابية واثناءها، كثيرا ما يتم التخلي عنها بعد تلك الحملات. اذ نستطيع ان نتذكر ان ترامب انتقد السياسة الخارجية الاميركية في عهد اوباما في عدة مواضيع، وبدا انه سيسعى الى تغييرها متى جاء الى السلطة، ولكن عندما تم انتخابه تبخرت تلك الانتقادات فجأة او بالتدريج، وبدلا من موقف مختلف من الازمة السورية، رأينا استمرارا لنفس السياسة بطرق اخرى، وبدلا من موقف اكثر مبدئية واخلاقية من الحرب على اليمن، راينا استمرارا لدعم الدول المهاجمة، بل ان ترامب صرح علنا ودونما مواربة، ان مزيدا من المال من دول الخليج هو المطلوب، ثمنا للحماية ولاستمرار الدعم، وما عدا ذلك بدا شأنا
ثانويا.
الحقيقة التي تسطع من وراء كل هذه التفاصيل، هي ان مراكز القوى الفاعلة في السياسة الاميركية الخارجية هي نفسها، وبالتالي فانها قادرة على اعادة انتاج هذه السياسة باشكال ووتائر مختلفة رغم اختلاف الواجهات والمسميات. وهذه القوى هي بالطبع مراكز التأثير والمصلحة الاقتصادية قبل كل شيء، المتمثلة في المصالح الاقتصادية للشركات الكبرى واللاعبين الاقتصاديين الرئيسيين، ومراكز التاثير الخارجي مثل اللوبيات التي تمارس تاثيرها في حملات العلاقات العامة والرأي العام.
فضلا عن مراكز السلطة نفسها، اضافة الى عوامل اخرى، مثل حجم التحديات الخارجية التي يمكن ان تواجه الهيمنة الاميركية، مثل النفوذ الروسي المتعاظم سياسيا وعسكريا او النفوذ الصيني المتعاظم
اقتصاديا.
ولهذا فمن الحكمة عدم التعويل كثيرا على ما يقال قبيل واثناء الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، سواء من الجمهوريين او الديمقراطيين، فكثير ما يقال هو مجرد مغازلات لسايكولوجيا الناخبين وتحشيدهم للحظة الانتخاب. اما واقع الاختلاف الحقيقي في السياسة الخارجية بين الطرفين (وهو ما يهمنا بالدرجة الاولى) فهو ما يتضح فقط في الممارسة السياسية اللاحقة، التي كثيرا ما تذيب تلك الوعود والحماسات، وتبين انها لم تكن سوى أداء لبعض قواعد اللعبة السياسية لا اكثر.