هل كان الهبوط على القمر كذبة كبيرة؟

بانوراما 2019/08/23
...

ريتشارد غودوين 
ترجمة: مي اسماعيل
احتاجت أميركا لنحو أربعمئة ألف موظف ومتعاقد لوضع "نيل أرمسترونغ-Neil Armstrong" و"باز ألدرين – Buzz Aldrin" على سطح القمر سنة 1969؛ ورجل واحد يُدعى "بيل كيسينج-Bill Kaysing " لنشر فكرة تقول إنّ الموضوع كان عبارة عن.. "خدعة أميركية بثلاثين مليار دولار..". 
بدأ الأمر بــما يمكن تسميته ــ.. "الشعور والحدس"؛ قبل أن يتحول الى .."قناعة حقيقية".. أنّ الولايات المتحدة كانت تفتقر الى البراعة التقنية للوصول الى القمر (أو على الأقل- العودة من هناك بعد الوصول). 
أسهم كيسينج فعليّاً ببرنامج الفضاء الأميركي؛ وإن كان من بعيد.. فبين سنوات 1956-1963 كان هذا الرجل موظفا ضمن شركة "روكيتداين- Rocketdyne" التي أسهمت في تصميم محركات صواريخ "ساتيرن 5-Saturn V ". وعندما جاء العام 1976 نشر (شخصيا) كتيبا بعنوان: "نحن لم نذهب إطلاقا الى القمر.. خدعة الثلاثين مليار الأميركية" وتابع فيه أدلة لقناعته تلك بصور لطيفة ونظريات مثيرة للسخرية. لكنه مع ذلك غرس فكرة ما زالت حية بفعل أفلام هوليوود ووثائقيات شركة "فوكس" الإخبارية ومنتديات "ريدإيت" وقنوات "يوتيوب". ورغم الحجم المدهش للأدلة (ومنها نحو 382 كغم من حجارة القمر جمعت خلال ست رحلات) وتأييد كل من روسيا واليابان والصين، وصور وكالة "ناسا" من أقمارها الصناعية المدارية (وتظهر فيها آثار أقدام رائدي الفضاء على رمال القمر)؛ فقد ازدهر تصديق قصة "خدعة القمر" منذ سنة 1969، لتكون واحدة من نظريات المؤامرة التي تماثلها افكار من قبيل: حقيقة أحداث 11 أيلول، ومعارضو التطعيم ضد الأمراض، ومنكرو كروية الأرض وغيرهم؛ حتى باتت مشاهد الهبوط على القمر كحقيقة مسلّم بها، ولم يعد الاعتقاد بأنّها مزيفة مصدرا لإثارة الغضب.
 
نظريات المؤامرة
تطول قائمة الأشخاص والمواقع المؤمنة بكذبة "الهبوط على القمر" (ومنهم أساتذة جامعات وعلماء)، وتتعدد وسائط نشرهم. وفيما اعتمد كيسينج على صور مستنسخة بأسلوب "ساميزدات- samizdat" (نوع من الكتابة والنشر مارسه منشقو الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية تحديًا للرقابة، إذ تُكتب المطبوعات المحظورة باليد وتُمرر من قارئ إلى آخر- المترجمة). يعتمد مشككو اليوم على مواقع النشر عبر الانترنت ليوثقوا كيف كانت ناسا..  من الكسل لدرجة أنّها استخدمت المركبة القمرية ذاتها لرحلات "أبوللو" 15 و16  و"17؛ وكيف "خدعونا لسنوات طويلة"؛.. وغيرها من التعليقات. يقول "روجر لاونيوس - Roger Launius"، رئيس مؤرخي ناسا السابق: "الواقع أنّ الانترنت جعل من الممكن للناس أن يقولوا ما يرغبون به، وإيصاله الى عدد أكبر من الناس. والحقيقة أنّ الأميركان يحبّون نظريات المؤامرة؛ فكلما وقع حدث كبير قدّم له بعضهم تفسيرا مضادا". 
ظهر أيضا أنّ البريطانيين مغرمون بنظريات المؤامرة؛ إذ استقبل برنامج نهاري بريطاني ضيفا جادل أن لم يكن بإمكان أحد السير على القمر لأنّه يتكوّن من ضوء. وجادل "مارتن كيني" قائلا: "في الماضي شاهدنا الهبوط على القمر ولم يكن لدينا طرق التحقق من الحدث؛ والآن، في عصر التكنولوجيا يتحرّى الكثير من الشباب الأمر بأنفسهم". 
أظهر استطلاع حديث أنّ واحدا من كلّ ستة بريطانيين يتفق مع عبارة: "مشاهد الهبوط على القمر مفبركة"؛ وقال أربعة بالمئة منهم أن نظرية التزييف "حقيقية بالتأكيد"، وقال 12 بالمئة أنها.. "قد تكون حقيقية"؛ واكتفى نحو تسعة بالمئة بالقول- لا أعرف! كان القبول بنظرية التزييف أكثر انتشارا لدى الشباب؛ إذ اتفق 21 بالمئة من فئة أعمار 24-35 سنة أن مشاهد الهبوط كانت "باخراج مسرحي"، مقارنة بنحو 13 بالمئة فقط لأعمار فوق 55 سنة. 
 
شكوك منطقيَّة؟
تغذي تساؤلات كيسينج الأصلية تلك الأفكار؛ ومنها حقيقة أن الصور خلت تماما من النجوم، وغياب الفجوة التي يخلفها الهبوط تحت موقع المركبة؛ والثالثة- طريقة سقوط الظلال على الرمال. قضى المتخصصون ساعات في شرح مثل تلك "الفقرات الشاذة" عن المنطق، وهي (بالتتابع)- المتعلقة بزمن فتح عدسة الكاميرا (1)، والطريقة التي تحدث بها الفجوات الأرضية في الفراغ (2)، والصفات العاكسة للغبار القمري (3). بقي كيسينج حتى وفاته (سنة 2005) على اعتقاده أنّ الأمر كلّه خدعة صوّرت في ستوديو تلفازي. قال خلال مقابلة صحفية سنة 1994: "ثبت في السجلات أن ناسا كانت دائما ضحية لسوء الإدارة وتدني معايير الجودة؛ ولكن تخيّل أنّنا (منذ سنة 1969) استطعنا فجأة تنفيذ رحلة مأهولة تلو أخرى؟ وبنجاح تام؟ هذا يخالف جميع الاحتمالات الإحصائية". 
كان كيسينج مصيبا في هذا على الأقل؛ فحينما اطلق السوفيت مركبة "سبوتنيك 1- Sputnik" خلال تشرين الأول سنة 1957 (تلتها "سبوتنيك 2" بعد شهر واحد حاملة الكلبة "لايكا")؛ كان برنامج الفضاء الأميركي شبه معدوم. فقد تأسست وكالة ناسا عام 1958، وتمكّنت من إطلاق "الآن شيبارد-Alan Shepard " الى الفضاء بحلول أيار سنة 1961. ولكن عندما أعلن الرئيس الأميركي آنذاك "جون كندي" أنّ على الولايات المتحدة.. "تكريس نفسها لتحقيق هدف قبل انقضاء هذا العقد؛ وهو انزال رجل على سطح القمر والعودة به سالما الى الأرض"؛ بدا ذلك طموحا بعيدا. وعندما دخلنا منتصف عقد الستينيات كانت ناسا تستهلك أكثر من أربعة بالمئة من الميزانية الفيدرالية الأميركية. وبينما كان السوفيت يحققون المزيد من الإنجازات الأولى: أول امرأة الى الفضاء (1963)، أول نشاط خارج المركبة (أي- السير في الفضاء، 1965)؛ شهد الأميركان انتكاسات مختلفة، منها- حريق لمنصة إطلاق قتلت رواد أبوللو- 1 الثلاثة. 
 
في الحقبة الحديثة
لو كنتَ ممن زاروا متحف العلوم وسط لندن؛ لرأيت أنموذجا لمركبة الهبوط القمرية مصنوعة من ورق الألمنيوم. دارت "أبوللو 8" حول القمر سنة 1968؛ ولكن تصحيح المسار والهبوط على القمر كان (كما علّق أرمسترونغ).. "هو الجزء الأكثر تعقيدا من الرحلة الى حدٍ كبير". أعطى ارمسترونغ تقييما قدره 1/10 لصعوبة السير على سطح القمر (رغم مشاكل صادفها حين التف سلك التسجيل التلفازي على قدميه)، ومضى قائلا: "لكنني أظن أن صعوبة عملية الهبوط تعادل 13/10". وهذا يثير التعجب؛ حتى تقارنه بصعوبة الحفاظ على كذبة كبيرة أمام العالم أجمع لخمسة عقود دون زلة لسان واحدة من موظفي ناسا. وعليك أيضا أن تتخيل أن المؤثرات الخاصة لعصر 2019 كانت متاحة لوكالة ناسا سنة 1969 من دون أن يلاحظ أي من 600 مليون مشاهد تلفزيوني أي شيء غير صحيح! يمكن القول إن فيلم المخرج "ستانلي كوبريك""2001- أوديسا الفضاء (سنة 1968) يقدم مؤشرا أمينا لما كانت مؤثرات هوليوود الخاصة تستطيع تقديمه خلال تلك الفترة، وكانت صعبة التنفيذ.. لقد كان من الأسهل حقًا التصوير داخل الموقع! 
دخلت نظرية "الكذبة" الحقبة الحديثة سنة 2001، عندما بثّت "فوكس نيوز" فيلما وثائقيا بعنوان: "هل هبطنا على القمر؟". أعاد الفيلم تقديم جدليات كيسينج لجمهور جديد. يقول لاونيوس (الذي كان يعمل ضمن وكالة ناسا حينها): "رفضنا الاستجابة لتساؤلات نظرية الكذبة سنوات عديدة؛ ولكن عندما بثت فوكس ذلك الوثائقي (الذي أفاد بشكل لا لبسَ فيه أنّنا لم نهبط على القمر) بدأنا نستلم أسئلة كثيرة". أكثر السائلين هم المدرّسون والآباء الذين طالبهم أطفالهم بالتفسيرات؛ فوضعت ناسا صفحة على الانترنت لمعالجة الموقف. 
إحدى النقاط المثيرة للقلق في الفيلم كانت تتمثل بتقديمه نتائج استفتاء يدّعي أن عشرين بالمئة من الأميركان يؤمنون بمبدأ الكذبة. يرى لاونيوس أنّ النسبة الحقيقية تتراوح بين أربعة الى خمسة بالمئة؛ ولكن من السهل صياغة أسئلة الاستفتاء ليأتي بنتائج مثيرة. ومن خلال أحد أفلام هوليوود المنتجة سنة 2014 قالت معلّمة لأحد طلابها أنّ الهبوط على القمر كان خدعة لأجل كسب حرب الدعاية ضد الاتحاد السوفيتي. يمضي لاونيوس قائلا: "إنّها مجرد جملة من فيلم؛ لكنّها تقود الى ردّ فعل كبير". 
 
لم يعد مزاحاً..
يعتقد "اوليفر مورتن" مؤلف كتاب "القمر: تاريخ للمستقبل" أن الإصرار على نظرية الكذبة ليس بالأمر المثير للتعجب؛ فبمقارنة حدث غير معقول عليه الكثير من الأدلّة (رحلة أبوللو 11) مع حدث معقول لا يوجد عليه أي دليل (كذبة الهبوط على القمر)؛ سيختار بعض الناس هذا الأخير! يمضي مورتن قائلا: "جوهر موضوع أبوللو كان إظهار مدى قوة الحكومة الأميركية من حيث تنفيذ المشاريع الكبيرة، وكان فحوى نظرية الكذبة إظهار مدى قوة الحكومة الأميركية من حيث جعل الناس يصدقون أشياء غير حقيقية. وإذا عاد الذهن الأميركي الى مخاوف الشك والاضطهاد الذي كانت تعيشه سنوات عقد السبعينيات؛ أصبح من الأكثر سرورا تصديق الكذبة". لكن قصة الكذبة نالت إمكانية التصديق حينما لم تستطع مسيرة أبوللو الوصول الى أي شيء؛ إذ توقفت الرحلات بعد
 سنة 1972. 
عند متابعة فيلم "الماس للأبد" (من سلسلة مغامرات جيمس بوند، 1971)، يدخل البطل إحدى منشآت ناسا وسط صحراء نيفادا ليندفع صدفة الى ستوديو سينمائي يجري فيه تصوير مشهد متكامل للهبوط على القمر (برواد الفضاء والمركبة..). لكن الأمر هنا تعدى المزحة البصرية. وحين ظهر فيلم "كابريكون 1" سنة 1978 (عن رحلة فاشلة الى المريخ تقرر السلطات بعدها قتل رواد الفضاء خشية كشف الحقيقة) لم تعد فكرة أن الحكومة تخدع الشعب مثيرة للضحك. فخلال حقبة ما بعد " فضيحة ووترغيت" أصبحت فكرة أن الحكومة تستطيع تقديم كذبة بهذا الحجم أمرا أكثر قبولا للتصديق من الرأي العام! 
 
تحليل منظور الخديعة
كانت رحلات أبوللو مرحلة فاصلة بين تفاؤل الستينيات وخيبات السبعينيات؛ وصار من المألوف القول: "إذا كنا نستطيع وضع رجل على القمر، فلماذا لا نستطيع فعل أي شيء
 آخر؟". 
يستطرد مورتن قائلا: "نعم، بإمكان الحكومة تعيين هدف استثنائي ثم المضي لتحقيقه؛ لكن هذا لا يعني أن بإمكانها الخروج منتصرة من حرب فيتنام أو تنظيف مراكز المدن الفقيرة أو شفاء السرطان، أو أي من الأشياء التي ترغب بها أميركا بشدة. هنا تغذّت فكرة أن الحكومة ليست قوية بالفعل بل تتظاهر بذلك على كذبة الهبوط على 
القمر". 
تدور نظريات كذبة الهبوط على القمر غالبا على ما لم يكن قد حدث، بدلا مما حدث. وينقسم منظروها جدلا حول ما إذا كانت بعثات الفضاء السابقة لأبوللو كاذبة أيضا، وهل ذهبت الكلبة "لايكا" أو الروسي "يوري غاغارين" حقا الى الفضاء، ومدى الدور الذي لعبته هوليوود من أجل فبركة 
الكذبة. 
ولكن حين كان دافع الجيل الأول من داعمي نظرية الكذبة هو الغضب؛ فقد بات الدافع اليوم هو الضجر.. لقد صار الخط الفاصل بين المؤامرة والترفيه منطقة ضبابيّة!  
وعلى الرغم من كل شيء، تبقى نظريات كذبة الهبوط على القمر أمرا غير مؤذٍ، ولم يتدخل فيها ترامب. 
ولا دليل على تدخل عملاء الإعلام الروسي المضاد هنا (رغم عقلانيّة الموضوع بكونه وسيلة ممتازة لاستعادة الهيبة الروسيّة وبناء الاستمرارية بين الحرب الباردة وحروب المعلومات). كما امتلك الاتحاد السوفيتي بالفعل وسائل كشف الكذبة الأميركية في حالة وقوعها؛ وقال بعض ضباطه إنّهم كانوا بانتظار تلك الفرصة بلهفة!  
رغم كل شيء (يقول مورتون) يبدو أنّ مروّجي نظرية المؤامرة يأخذون رحلات أبوللو بالكثير من الجدية؛ رغم أنّها لم تغيّر فعليا الحياة على الأرض. ومع أن الكثيرين يعتبرونها مزحة، يعود اليها بعضهم بين الحين والآخر. وإذا عادت أميركا الى القمر (ربما بحلول سنة 2024، وفقا لأهواء ترامب)؛ فستُستبدل تلك النظرية بكذبة الوصول 
الى.. المريخ!.