ما وراء {حمى} بناء المدن من الصفر
بانوراما
2019/08/26
+A
-A
ترجمة وأعداد: مي اسماعيل
الرغبة في بناء المدن من الصفر ليست بالشيء الجديد؛ لكن تلك المدن صارت اليوم تشيد بمبادرات من الشركات الخاصة متعددة الجنسيات، لتكون مجتمعات معفاة من الضرائب ذات بوابات ذهبية.. عند الساعة الثامنة والنصف من صباح كل يوم ينطلق إعلان من مكبر صوت في شقة كيم جونغ وون، ناقلاً النشرة اليومية؛ وتتضمن تفاصيل تدابير جديدة لوقوف السيارات وانبوب رمي النفايات الهوائي ومهام متعددة واجبة التنفيذ لصيانة المبنى ذلك اليوم. تقول جونغ سيم زوجة وون: “لا وسيلة لإسكات ذلك المكبر؛ فأنا أكره التكنولوجيا بينما يتبنى زوجي أحدث معطياتها مبكراً..”. كان حب وون لأحدث معطيات التكنولوجيا الدافع لانتقاله واسرته الى “المستقبل”.. (أو أقرب شيء اليه): مدينة سونغدو بكوريا الجنوبية.. المدينة الذكية المشيدة على 600 هكتار من أرض “صناعية” جرى تجريفها من البحر الأصفر قرب مطار إنشيون بسول.
في سونغدو تسحب الأزبال أوتوماتيكياً عبر أنابيب تحت الأرض، وتراقب أعمدة الكهرباء المارة طيلة الوقت، ويرسل المبنى السكني المصعد لموافاة الساكن حينما يستشعر إقتراب سيارته.
تتابع أجهزة الاستشعار حركة المرور وتبعث تحذيرات الى هواتف السكان عند قرب تساقط الثلج، كما يمكن للشخص مراقبة ملعب أطفاله على التلفاز وهو جالس على أريكته! أكثر ما يستمتع به “وون”- شاشة صغيرة على جدار المطبخ تعمل باللمس؛ تسمح بتتبع استهلاك الاسرة من الطاقة الكهربائية والماء والغاز.. والأهم- مقارنتها بنسب الاستهلاك القياسية في المبنى، ويشعر بالسعادة لاكتشافه أنهم عبروا يوماً آخر كانوا فيه أكثر كفاءة باستخدام الطاقة من جميع جيرانهم.
ملامح المدن الذكية
تشبه سونغدو عموماً أغلب المدن الآسيوية الحديثة؛ فهناك خط المرور السريع ذو الثمانية مسارات وبعده المتنزه المركزي، الذي تقوم حوله الأبراج الزجاجية العالية حداثية التصميم. أما المباني السكنية الكونكريتية المتشابهة فتمتد حتى الأفق، لتنتهي عند مساحات ملعب الغولف الخضراء.
كثيراً ما تقتصر الحياة العامة في أمثال هذه المدن على المراكز التجارية الكبيرة ذات التكييف المركزي ونوادي الترفيه الخاصة؛ لكن سونغدو تتميز عن غيرها بتوظيف أحدث مبتكرات التكنولوجيا لتكون “مدينة ذكية”!
بدأت حكومة كوريا الجنوبية العمل بالمدينة أواخر التسعينيات عند التخطيط لمطار إنشيون؛ لتمثل انموذجاً جرى تكراره لاحقاً في أماكن عدة حول العالم. بدأ العمل بصيغة مشروع مشترك مع شركة “غيل إنترناشيونال-Gale International “ الأميركية (التي نقلت تجربتها منذ ذلك الحين الى بلدان أخرى)؛ تأسست بعده هيئة “منطقة سونغدو التجارية الدولية” (بقيمة 40 مليار دولار) لتكون مركزاً للشركات الدولية ومثالاً على التحضر المستدام، واختباراً لتقنيات المدينة الذكية
الجديدة.
تدّعي سونغدو أن لديها أعلى تركز لمباني “ليد- LEED” الخضراء الموثقة في العالم (LEED= القيادة في حفظ الطاقة والتصميم البيئي؛ وهو نظام شهادة المباني الخضراء المعترف بها دوليا، الذي يقدم ضمانة طرف ثالث بأن المبنى أو المجمّع مصمم ومشيد وفق ستراتيجيات تهدف لتحسين الأداء من نواحي حفظ الطاقة وإستهلاك الماء والغاز...).
ما زالت سونغدو تعتمد على السيارات للانتقال، بلا خط قطار الى المطار القريب؛ أما الوصول الى سول (على بعد 30 كم) بالمترو فيتطلب نحو ساعة ونصف. هناك “مركز للعمليات المتكاملة” وغرفة سيطرة تمر اليها يومياً بيانات من آلاف أجهزة الاستشعار حول المدينة.
لكن النموذج الفيزيائي الحضري لا يختلف كثيرا عن أي مركز أعمال يعتمد على السيارة؛ ورغم شعارات “الطاقة المنخفضة” التي تزخر بها، تبقى مكاناً باهظ الكلفة وحصرياً وغير شخصي!
يوتوبيا التقنية- البيئة المطلقة؟
تقام حول العالم مدن كثيرة على نمط سونغدو،
لا يكاد يسهل التمييز بينها؛ تصممها وتديرها الشركات الاستشارية ذاتها. تبرز مثل تلك الاستشاريات الحضرية عالية التقنية سريعا؛ من كينيا إلى كازاخستان.. تعهدت الهند ببناء مئة مدينة ذكية، بينما شهدت أفريقيا ضخ نحو مئة مليار دولار تجاه عشرين مشروعا مماثلا على الأقل. وبعدما استهلت الصين نحو خمسمئة مدينة ذكية في مشاريع ريادية؛ تؤسس الآن لسلسلة من المراكز الاستيطانية من خلال مبادرة “الحزام والطريق”.. من ميناء “خورغوس” الجاف على الحدود مع كازاخستان الى رصيف “رويال ألبرت دوك” المائي شرق لندن؛ الذي أعيد تأهيله باسم “متنزه الأعمال الآسيوي”.
تعهدت السعودية بالتفوق على جميع تلك المبادرات بمشروع “نيوم-Neom” الضخم بقيمة 500 مليار دولار، ليوازي “سيلكون فالي” (وادي السليكون= موقع كبرى شركات التكنولوجيا الأميركية). خطط لمشروع نيوم أن يكون مركزا للطاقة المتجددة والتكنولوجيا الحيوية والتصنيع والإعلام والترفيه؛ بمساحة تفوق مدينة نيويورك بنحو 33 مرة. يدعّي المشروع أنه لن يكون أقل من “أكثر المشروعات طموحا في العالم”؛ و”حاضنة للحقبة القادمة للتطور الإنساني”.
هذا الدافع المُلِح لبناء مدن جديدة من الصفر ليس بالأمر الجديد؛ فعند مطلع القرن التاسع عشر قدمت حركة “المدن الخضراء” جيلا من المجتمعات القروية التي جرى تخطيطها كرد فعل على كآبة وازدحام المدن الصناعية السريع، ومدفوعة بحملات قوية من الإصلاح الاجتماعي. وبعد نحو نصف قرن طورت حركة “المدينة الجديدة” تلك الأفكار ووعدت بتقديم عالم شجاع جديد من المجتمعات الحديثة ذاتية الاكتفاء تقوم على أنقاض الحرب العالمية الثانية؛ لتركز على بناء مجتمع ديمقراطي شامل.
الآن، في العقود الأولى من الألفية الجديدة؛ أنتجت الطفرة في عدد سكان العالم والإحساس بكارثة بيئية حتمية سيلا من مشاريع تخطيط مدن ذات نمط مختلف جدا.
تقدمها هذه المرة مؤسسات خاصة متعددة الجنسيات، لتكون مجتمعات بأبواب مذهبة ومحاور للتجارة الحرة معفاة من الضرائب؛ وصفت كل منها بأنها يوتوبيا التقنية- البيئة المطلقة!
الحاجة للتوسع الحضري واضحة؛ إذ تقدر الأمم المتحدة ان نحو 68 بالمئة من سكان العالم سيعيشون في المدن بحلول سنة 2050، ما يضيف نحو ملياري ونصف نسمة الى المناطق الحضرية، غالبيتهم العظمى في آسيا وأفريقيا. سكان تلك الحضريات الجديدة سيحتاجون أماكن للعيش والعمل؛ لكن غالبية المدن المخططة حديثا ليست مصممة لإيواء الموجات القادمة من المهاجرين الريفيين/الحضريين؛ بل وسائل لجذب الاستثمارات الدولية وزيادة ثراء الأثرياء الحضريين؛ في وقت صارت فيه العقارات العملة العالمية المطلقة!
مناجم المستقبل
تكشف الدراسات الحديثة أن العقارات تمثل أصولا أكثر قيمة من جميع الأسهم والشراكات والديون المضمونة مجتمعة؛ بما تقدر قيمته بنحو 228 ترليون دولار؛ وهذا يمثل ثلاث مرات ونصف قيمة مجموع الدخل القومي العالمي “GDP”، أو أربعين مرة قيمة الذهب الذي جرى استخراجه على الاطلاق! وفيما حفر الانسان في وقت ما ليستخرج مواد قيمة من الارض؛ باتت الأبراج الزجاجية اللامعة في الجيوب الحضرية الجديدة كأنها أنفاق مناجم مقلوبة؛ بكل ما فيها من أضرار جانبية ضارة.
تتخذ السلالة الجديدة من المدن صيغا مختلفة؛ من مبادرات حكومية الى شراكات عامة- خاصة، الى استثمارات خاصة. تستخدم العديد منها لدفع عجلة الاقتصاد قدما في الدول النامية؛ وهنا يجري تصميم مخططاتها الأساسية بدقة لتستقطب المستثمرين الأجانب والثروات التي تريد تشغيل أموالها في مشاريع متينة. هذه كلها تمثل وسائل نفوذ للدول الغنية لتوسيع تأثيرها الستراتيجي خارج حدودها؛ ليكون تشييد المدن الجديدة نوعاً من “دبلوماسية اقتناص الديون” التي تربط الدول المضيفة باتفاقات مستحيلة صعبة البنود. توصف تلك المدن للملأ بأنها الدواء الشافي لأوجاع العالم الحضرية، لحل مشاكل الاكتظاظ والاختناقات والتلوث؛ لكن يتضح أنها (في أغلب الأحيان) حوافز لنزع الملكية والإنحدار البيئي والتفاوت الاجتماعي.
صفقة نسبية للأجانب!
في الطرف الجنوبي من ماليزيا وعلى أربع جزر صناعية؛ تنبثق واحدة من تلك “الجنان الموعودة” من الرمال.. انطلق مشروع “مدينة الغابة” سنة 2014، بتمويل مشترك (100 مليار دولار) بين المستثمر الصيني “كانتري غاردن” وسلطان “جوهور”. ومن المخطط أن يسكنها نحو سبعمئة ألف نسمة عام 2050.
جرى تسويق “مدينة الغابة” على أنها “منطقة حضرية أيقونية” تبعد دقائق عن سنغافورة، مدينة متطورة يجري فيها “دمج مفاهيم السلامة والراحة والخضرة والأناقة بجميع أركان الحياة”. يقدم العرض أبراجا للشقق الفاخرة وفنادق ومكاتب ومجمعات تسويقية ومدرسة دولية؛ جميعها “محتواة ضمن غطاء نباتي أخضر” ومحاطة بــ “سياج كهربائي حقيقي”! تلك الشقق باهظة الثمن كثيراً بالنسبة لغالبية الماليزيين، لكنها تمثل “صفقة نسبية” للمستثمرين الصينيين؛ الذين وصلوا بالطائرة وطافوا صالات العرض (ذات الأجواء الشبيهة بسفن الفضاء) وأُعجبوا بعالم المستقبل الذي ينتظرهم، وسددوا الدفعة الأولية قبل المغادرة. يجري بناء هذه “المدينة البيئية” (كما تسمى) على 162 مليون متر مكعب من رمال مشحونة من الخارج؛ التي كان لها بالفعل تأثير تدميري على البيئة البحرية المحيطة.
فقد قطع الممر الذي بني لتسهيل ردم الماء واستصلاح الأرض مساحات مروج الأعشاب البحرية في “ تانجونج كوبانج”؛ وهي بيئة ثمينة تسهم بإستقرار قاع البحر وتحمي السواحل من التآكل. كما سُحِقت مساحات المانغروف (الأشجار الساحلية) لفسح المجال أمام معامل التصنيع المسبق لمواد الانشاء. بدأت عمليات طمر السواحل دون تقييم التبعات البيئية الناتجة، ليشعر صيادو السمك المحليون بالفعل بالتأثيرات؛ إذ تذمروا من تناقص محاصيل الصيد بسبب تدمير أنظمتهم البيئية الهشة. بالمقابل فان مجتمع الجزيرة المستقبلي ليس مجتمع مدينة بقدر ما هو منتجع مهجور معفى من الضرائب؛ يمكن وصفه بعملية إخراج صوري لا يكاد يجتمع ساكنوه طيلة الوقت!
لا اعتبار للسكان المحليين
تجري قصة مماثلة على بعد آلاف الكيلومترات على ساحل أفريقيا الغربي؛ حيث يجري الترويج.. “لفرصة استثمارية بمقياس غير مسبوق” على قطعة أرض مصنوعة من رمال المحيط الأطلسي قرب سواحل لاغوس. “إيكو أتلانتك” شراكة عامة- خاصة أخرى بين الحكومة ومجموعة “شاغوري” (امبراطورية أعمال نيجيرية نافذة)؛ بينما تقدم شركة “إنشاء الاتصالات الصينية” الحكومية العملاقة الخبرات الهندسية. ويبدو أن هذه الأخيرة احتكرت السوق بتكوين الأراضي من المحيط، بعدما كانت مسؤولة عن تجريف مناطق “مدينة الغابة” وتحويل بيئة الجزر المتنازع عليها ببحر الصين الجنوبي.
تستقر “إيكو أتلانتك” وراء حاجز الحماية البحري الخاص بها المسمى “جدار لاغوس العظيم”؛ المؤلف من مئة ألف قطعة كونكريت تزن الواحدة منها خمسة أطنان، ما يجعلها جزيرة خاصة آمنة للبعض، محمية من كوارث المناخ على حساب الآخرين.. كجزيرة مرجانية مخصصة للنخبة النيجيرية الثرية، بينما يبقى الفقراء في أكواخ السواحل الواطئة المعرضة للفيضانات القاتلة وتعرية الشواطئ؛ وهما ظاهرتان ارتفعت معدلاتهما منذ إنشاء الجدار البحري. يصف الناشط البيئي النيجيري “نيممو باس-Nnimmo Bassey” المشروع بأنه.. “نقيض لكل ما قد يعمله المرء إذا نظر بجدية لتغيرات المناخ واستنزاف
الموارد”. يبدو أن الإعلانات المرسومة بالحاسوب للمدن “الحصرية” غذّت اندفاعا لمشاريع مستقبلية مماثلة وخطط غير ملائمة للمناخ في القارة؛ إذ اندفعت الدول لتقديم حلول لإسكان نحو 1.3 مليار نسمة من المتوقع إضافتهم لسكان افريقيا بحلول سنة 2050.. منها ما أعلنت عنه غانا بمخطط “مدينة الأمل”؛ وهي تسمية تجمع “المسكن والمكتب والناس والبيئة” ضمن تخطيط خيالي جامح كلفته عشرة مليارات، سيصير موقعا لأعلى مباني أفريقيا ارتفاعا. هناك مشاريع مماثلة لكل من تنزانيا وكينيا ورواندا والسنغال؛ جميعها تتبع تخطيطا يعتمد السيارة للحركة لتكون مراكز عالية التكنولوجيا يندر أخذها السكان الحاليين بنظر الاعتبار.
جاء في كتاب “بناء المدن في أفريقيا” لمعهد “المدينة الجديدة” الدولي: “باتت المدن الجديدة جزرا تقدم خدمات عالية الجودة؛ بينما تعاني مدن أفريقية موجودة من نقص تجهيز الكهرباء والماء النظيف وباقي الخدمات البلدية. ولمحدودية سبل الوصول للقروض ووسائل تمويل السكن؛ لن تستطيع الطبقة الوسطى الأفريقية الحقيقية العيش في تلك المدن الجديدة”. ورغم دلائل بقاء مدن الأحلام شبه خالية في أنحاء العالم؛ لا يبدو على حلم بناء مدن جديدة من الصفر أي علامة للتراجع قريبا. فبناء المدن (والتخطيط والخدمات الهندسية والتقنية الواسعة المرافقة له) صناعة مزدهرة؛ والمؤسسات المالية عازمة على إعادة تدوير أفكارها بغض النظر عن السياق المحلي.
أوليفر وينرايت - صحيفة الغارديان البريطانية