الشابندر.. مقهى المجتمع البغدادي

اسرة ومجتمع 2018/11/10
...

عبد الكناني
 
لمقهى الشابندرمكانة مميزة في تاريخ العراق المعاصر منذ تأسيسه سنة (1917 )، من قبل موسى الشابندر احد اقطاب السياسة في العراق، “تولى منصب وزير الخارجية في احدى الوزارات العراقية في مابعد” ونسب الى لقبه. غدا ملتقى لجميع العراقيين فمكانه القريب من سرايا الحكومة ومجلس الوزراء والدوائر المهمة في البلاد جعله يؤسس وشيجة متينة مع العراقيين الذين كانوا يفدون من مدن العراق المختلفة لمعاملات لهم او مصالح في بغداد تستوجب مراجعتهم للدوائر الرسمية فكان يحتضنهم المقهى ان كان في الصيف القائض او الشتاء القارس لامضاء ساعات الانتظار على تخوته وربما يرتادونه اكثر من يوم بحسب مدة بقائهم في بغداد. فضلا عن ارتباط البغداديين به لتواجد المختارية ومقاولي العمل والنسابة والمحامين وحتى السياسيين والوجهاء والادباء والصحفيين الذين يسترقون الاسماع للحصول على اخبار من الوافدين علاوة على متابعة حركة الدولة وانشطتها والاحداث اليومية التي تنطلق من هذه المنطقة لتتداولها الالسن وللمقهى حصة كبيرة منها وتنشر في الصحافة اليومية والاسبوعية ومنها الهزلية.  
فهو محطة استراحة الجمهور البغدادي والمثقفين  فضلا عن عشاق الكتاب ومتابعي المعرفة وضامئي الادب والعلوم الذين يبحثون عن ضالتهم في سوق الكتاب “شارع 
المتنبي” العتيد منذ تلك الايام البعيدة وحتى وقتنا الحاضر حيث يحرص مديره والقائم على شوؤنه الشخصية التراثية والبغدادية الحاج محمد كاظم الخشالي ، على ان يبقى المثابة البغدادية الشامخة رغم تحديات الزمن وانعكاسات العصروافرازاته والتي القت بظلالها على واقع المقاهي فتغيرت صورتها ومهامها وتعثر دورها في تقوية الاواصر والوشائج وبكونها واحات محبة وتقارب بين اهل المناطق الى امكنة تفشت فيها المظاهر السلبية التي لم يعتدها المجتمع البغدادي والعراقي 
عموما.
وجعل منه حقاً قبلة لاهل الكلمة والازميل والريشة في مختلف مجالاتهم واهتماماتهم  من رواد التراث والانساب وحتى اهل الرياضة ،  واضحى مهوى لعشاق التاريخ وبغداد ومحفزا للمبدعين والحالمين باستعادة امجاد المدينة الفاضلة والفاتنة وألقها وزهورها في غابر الايام والسنين الخوالي .
محيط متجانس
 يقول الحاج محمد الخشالي 
 : كانت البناية التي تشغلها المقهى الان  مطبعة، ووقتها اعلن في الصحف عن تأجيرها، وتعاقب عليها مستأجرون عدة، وكان اخرهم امين جدوع الذي استمر فيها من سنة (1845 ) حتى عام (1962 )، واصبحت بأدارته منذ عام (1963 )والى الان. ومن خلال معاصرته للمقهى منذ ان كان يافعاً لوجود بيتهم في منطقة جديد حسن باشا. 
واكد: المقهى مر بمراحل عديدة ، وكل مرحلة تختلف عن الاخرى، فقد كان مقهى شعبياً جلس على تخوته التراثية وارتاده اهالي مدينة بغداد والوفدين اليها من المحافظات لمتابعة معاملاتهم في الدوائر الرسمية والوزارات التي تقع في منطقة السراي قرب المقهى وبعض الدوائر الاخرى المحيطة بالمنطقة وتقع في الباب المعظم والميدان ، حيث كان مجلس الوزراء يشغل جزءاً من بناية القشلة ، وكذلك وزارات الداخلية والعدلية والطرق والموصلات والمعرف والمالية ووزارتي الخارجية والدفاع في الباب المعظم ومجلس النواب زيادة على مجموعة المستشفيات ومن اشهرها المجيدية ، وكذلك سكان مدينة بغداد من مراجعي تلك الدوائر والوزارات ، ومن مرتادي سوق المتنبي والسراجين والسراي وساحة الرصافي الى جانب وجود كلية الحقوق والاعدادية العسكرية قرب المكان ...
 
دور وطني
وأضاف: ومن الفعاليات التي اشتهر بها السهرات الليلية التي كانت يعلن سنة ( 1926) .حيث تصدح حناجر قراء المقام العراقي وفي مقدمتهم رشيد القندرجي وأسماعيل عباده وكان ريع تلك الحفلات والليالي والسهرات يذهب الى مدرسة التفيض الاهلية التي أشرف عليها البزركان . ولكن تلك الفعاليات والليالي والسهرات التي يصاحبها (( خيال الظل ، والقرقوز)) توقفت بعد ظهور ووصول الراديو سنة ( 1948). ومن الاحداث التي ارتبطت بها وكان لها دور فيها احتماء الطلبة في تظاهرة جماهير بغداد ضد معاهدة (بورت سموث)  والتي استمرت اياماً عدة حتى اقبل رئيس الوزراء صالح جبر. وقد كان الحاج الخشالي شاهداً على حماية المقهى للطلبة من رجال الشرطة والامن الذين تعقبوا الطلبة حتى دخولهم المقهى، الذي كان خير ملاذ امن لهم ولبقية المتظاهرين حتى انهاء التظاهرات.   
وقبلها جرى في المقهى اول اجتماع لنقابة الميكانيك، ولعمال صناعة الجلود، وظلت انشطتهما مستمرة في المقهى لموقعها الجغرافي من المركز الحكومي .. بعد ان اعلن المرحوم الملك غازي قانون الاحزاب والنقابات سنة 1933 . 
وكانت تجري فيها انتخابات المختارين للمناطق المحيطة بالمقهى. وكذلك ترشيحات النواب. وارتاد مقهى الشابندر الكثير من شرائح المجتمع البغدادي، من مثقفين ووجوه اجتماعية متنوعة ، ورجال قانون ، ورؤساء عشائر ، وطلبة وكسبة، وادباء وفنانون وسياسيون ، ومن بينهم سعيد قزاز وزير الداخلية ، وفاضل الجمالي احد رؤساء الوزارات، والذي كان يعلن انه يفضل “المقهى 
البرازيلية”. 
 
وجوه وشخصيات
اما الباشا نوري السعيد، فكان حيث يمر بها متجها الى السراي او الى المقر يلقي عليها دعاباته وتعليقاته المرحة، لاسيما حينما يكون رائق المزاج، مرتاح النفس. وظلت تحتفظ بريقها ووهجها وحضورها الجميل في ذاكرة وحياة العراقيين حتى بوجود منافساتها من المقاهي البغدادية الشهيرة الاخرى من التي كان يرتادها المثقفون واساتذة الجامعات ووجوه المجتمع البغدادي ايضا، كمقاهي ( البرلمان، والحاج خليل القيسي ، وكريم الشبو، ولطيف، والبلدية، وعارف أغا، واحمد فتاح ، وجميلة). وحسن عجمي ، والزهاوي). ولكنها وبعد غياب هذه المقاهي بمرور الزمن بسبب تغير ايقاع الحياة وسواد مظاهر جديدة اثرت عليها وجعلتها تنسحب فأنها وجدت نفسها الوحيدة، وقد عوضت ذلك بأثرتها التراث البغدادي الاصيل سمة لها، واتخاذها الهوية الثقافية عنواناً ، والغت لعبتي الدومينو والطاولي وغيرها من الالعاب في المقهى، وجعلت منه فضاءً ثقافياً، ومناخاً ادبياً خالصاً، وصدراً رحباً لرواد شارع المتنبي والسراي من مختلف الشرائح والفئات ودرجت على ان تفتح ابوابها كل يوم جمعة لتكون في خدمة التجمعات المختلفة لاسيما الثقافية. 
 
تجمعات وزوايا  
  واشار الى ان اهم مايميز المقهى بروزالتجمعات والزوايا، والتي تكونت بصورة عفوية بادئ الامر، لكنها ترسخت بمروراً الايام، حيث كان المختارين يجلسون في مدخل المقهى لتمشية معاملات الناس، التي تتعلق بهم، وبالدوائر المحيطة بالمكان وتعود الى حقبة الستينات. وهناك زاوية اختصت بالمحامين، وزاوية لشيوخ العشائر في ذلك الزمن،... ومكانها في وسط المقهى. اما زاوية الادباء والكتاب، فهي في الحقيقة اكثر من زاوية ومكان، حيث يتوزعون المقهى على شكل مجاميع ذات الفة خاصة، ولغة مشتركة... 
وفي السبعينيات، تشكلت او تحددت زاوية للمقاولين لعلاقتهم مع محافظة بغداد التي كانت تجاور المقهى مع امانة العاصمة، حيث يحصلون على مقاولات متنوعة. 
 
معلم شامخ
وخشية على رواد المقهى من بعض الشر المتطاير في بغداد بعد التغيير الذي حصل في البلاد تلك الايام قرر عدم فتح المقهى لتجنيبهم الاذى من تفجيرات واعمال مسلحة. ولكنه لم ينجو فعلاً من حقد الحاقدين ودوافع الارهابيين المجرمين، حينما انفجرت سيارة مفخخة بجواره في 5 /3/ 2007 لتحدث دماراً كبيراً في المقهى والشارع والابنية وذهب ضحيته عدداً من اصحاب المحال والمكتبات والبسطيات ورواد الشارع، وكان من بين شهداء ذلك اليوم الدامي خمسة من ابناء الحاج محمد الخشالي هم الشهداء ( كاظم محمد كاظم وغانم محمد كاظم ومحمد محمد كاظم وبلال محمد كاظم والحفيد قتيبة محمد محمد كاظم الخشالي) رحمهم الله والضحايا 
الآخرون.. 
بيد ان المقهى وعلى الرغم من هذه التحديات وحجم الاذى الذي لحق بها، عاد مثل طائر العنقاء الى اداء عمله ودوره مع حجم الفاجعة ومرارة الحدث وعظم المصيبة، لان الحاج محمد كاظم الخشالي، رأى في مواصلة عمله رسالة ذات اهداف سامية، ومهمة لاينهض بها سوى الاصلاء من هذا البلد الطيب الذي علم الانسانية الحرف والكتابة والصناعة والزراعة والقيم الحميدة والمفاهيم النبيلة والمثل السمحاء. وكذلك وجد في اعادة فتحها شيئا من 
السلوى.