سؤال «السعادة» في الفكر البشري

ثقافة 2019/09/02
...

نصير فليح
 
مثل كل الاسئلة الكبيرة التي تشغل البشر، كالموت والحياة والامل والخوف، فإن سؤال السعادة البشرية، ومعنى الحياة الطيبة الملائمة، سؤال اساسي ايضا بل لعله اهمها واعمقها. وهو مقترن بقوة بأسئلة اخرى تناولها الفكر البشري عبر العصور، مثل طبيعة الام واللذة، وهي اسئلة حاضرة بقوة في الحياة اليومية للبشر ايضا لا في عالم الفكر والفلسفة فقط. ومثلما هي الحال مع الاسئلة الكبيرة جميعا، فلا اجابات نهائية، وانما مقاربات وتناولات جديدة
 عبر التاريخ.
 
أبيقور وكونديرا
في روايته «البطء» يشير ميلان كونديرا الى ان «اللذة» - قرينة السعادة - بعيدة عن التصور السلبي الذي ظل يقرنها بما هو زائل عابر. ويذهب الى ان أشهر فلاسفة اللذة والالم عبر التاريخ، أبيقور الاغريقي، كان يقصد باللذة تحاشي الألم. والحق ان فلسفة ابيقور عانت من تشويه طويل عبر التاريخ. فابيقور لم يقرن مفهومه عن «اللذة» بالمتع الحسية او الجسدية، بل اعتبر ان الحكمة العملية التي يتم نيلها من خلال الفلسفة، مطلوبة للحصول على حياة طيبة. وهذه الحياة تستند الى تلك المتع واللذات الاكثر اهمية والتي يمكن ادامتها  katastematic، على حساب الملذات الحسية العابرة الديناميكية المؤقتة kinetic. وذروة اللذات او المتع من النوع الاول، حسب ابيقور، كما هي الحال مع فلاسفة الاغريق الاخلاقيين، هي حالة السلام والسكينة والهدوء الداخلي ataraxia، التي تتطلب فهما لحدود الحياة الممكنة، واحتواء للخوف من الموت، وتهذيب وتنمية الصداقات، وازاحة الرغبات غير  الضرورية
 والانجذابات الزائقة.
 
السعادة وقلق المكانة
سبب رئيس من اسباب التعاسة والبؤس البشري هو التطلع الى مكانات غير متاحة او صعبة التحقيق، وهو ما تغذيه بوجه خاص حالة المقارنة بين وضع الانسان او الشخص واحوال الاخرين. وقد فُتحت هذه المقارنة على مصراعيها مع دخول البشر في المجتمعات الحديثة، وهو ما يناقشه بعمق (الان دو بوتون) في كتابه (قلق السعي الى المكانة). فالتراتبيات المؤسسة لبنية مجتمعات ما قبل الحداثة، مثل طبقات الامراء والسادة والفلاحين والاقنان...الخ، في الوقت الذي مثلت فيه بؤسا وشقاء كبيرين، وانتهاكا لمبدأ المساواة الانسانية، وعلة مزمنة في جسد الوجود البشري، فانها كانت تمهد لاستقرار نفسي اكبر. ولا غرابة بالتالي ان يصبح «القلق» مرض العصر الحديث. ونعرف جميعا كيف ان كل المكاسب المادية الاجتماعية التي يحققها الانسان تبهت وتضعف وتتلاشى اذا ما افتقد المرء السلام النفسي
 والذهني.
طبيعة الألم واللذة
ولكن لنعد الى طبيعة الألم واللذة نفسيهما وما يمكن ان يعنياه في الفكر والفلسفة. ان الألم هو نوع من خبرة او تجربة نفسية، لها عواقب سلوكية تجعل الانسان تعيسا. مع هذا لا يمكن اختزال طبيعة الالم الى الجانب السلوكي وحده. فهناك فرق جذري بين سلوك بشري معين مقترن بالألم، وبين نفس السلوك البشري من دون الاقتران به. والنظريات التي تحدد الألم باعتباره حدثا او تغيرا في الجهاز العصبي، هوجمت ايضا على اساس ان تحديد طبيعة الألم ينغبي ان يكون تشخيصا لماهيته، لا مجرد ربطه باحداث اخرى. ولعل ما هو متفق عليه بشكل واسع هو وضع الألم واللذة على طرفي خط واحد للخبرة باعتبارهما 
نقيضين.
 
الألم واللذة في الفلسفات الآسيوية
واذا عدنا للفلسفات الاسيوية، فان ملمحا بارزاً فيها هو تحاشي الألم عن طريق تحاشي التعلق attachment بالاشياء والعالم وما فيه. فالتعلق بالاشياء والعالم وما يترتب على ذلك من قلق وسعي هو المصدر الأساسي لآلآم الانسان في هذه الحياة. والبوذية شديدة الوعي بموضوع الألم البشري، فالولادة نفسها مشهد ألم، وكذلك الموت، وكذلك الرحلة ما بينهما. وواضح هنا الطابع التشاؤمي الزهدي لنظرة من هذا النوع. وبالتالي ليس غريبا ان تكون الفلسفات الاسيوية مصدرا مهما في فلسفة شوبنهاور، الذي يعتبر من اعمق واهم الفلاسفة الذين تناولوا موضوع الألم
 البشري وطبيعته.
 
الاغتراب والسعادة
موضوع الاغتراب alienation في العالم الحديث وثيق الصلة أيضا باسئلة السعادة البشرية. هذا المفهوم الذي يعتبر هيغل وماركس ابرز من تناولاه بتوسع وعمق. وقد رأى هيغل ان الاغتراب جانب من انفصال الوعي البشري عن تطورات “الروح المطلق” التي تتحرك عبر التاريخ حركة جدلية دائبة نحو تحققها النهائي في الواقع الفعلي.
 فيما ذهب ماركس الى ان الشعور بالاغتراب له جذوره في البنية الاقتصادية للنظام الراسمي في العالم الحديث، حيث يتم فصل الانسان المنتِج عن ثمار نتاجه، فتبدو له بالتالي السلع والاشياء التي يحتاجها ويعيش بينها وبواسطتها في حياته غريبة وغير مفهومة المصدر، وان ما يجري في المجتمع عموما أشبه بقوة قدرية
 عمياء.
 
مقاربات معاصرة
من المقاربات المعاصرة المهمة لسؤال السعادة البشرية، يمكن ان نشير الى فيلسوفين من ابرز فلاسفة العالم المعاصر، زغمونت باومان وسلافوي جيجك. فطبيعة المجتمع المعاصر، سواء سميناه «ما بعد حداثي» أو «حداثيا سائلاً» (والاخير مصطلح لباومان) يولد هشاشة الوجود، هشاشة العالم النفسي للانسان بالضرورة. فمنطق السرعة، والمجتمع الاستهلاكي، يكثف الشعور باغتراب الانسان. وعندما يتناول سلافوي جيجك هذه الظاهرة، فانه يستفيد من الموروث الفرويدي، واللاكاني بوجه خاص
(نسبة الى جاك لاكان). 
فاسئلة السعادة لا يمكن فصلها عن المجتمع الذي يعيش الانسان فيه، وبنيته الاقتصادية والثقافية، التي دخلت مرحلة جديدة من التغلغل والتسارع في العقود الاخيرة في عالم بات أكثر تكثيفاً للشعور بهشاشة العالم وهشاشة وجود الانسان فيه.