دهشة الروح المبلّلة بالغياب

ثقافة شعبية 2019/09/03
...

 سعد صاحب
 
كتب الشعراء الكثير من القصائد عن الطفولة ، القليل  من وفق بالتعبير عنها ، والبعض اخفق في معرفة اسرارها الغامضة . انها الفرح النادر العجيب ، ودهشة الروح الاولى لكل منظر جديد ، وفضول القلب لكل اكتشاف جميل . هي الصراحة التي لا تعرف الدوران والتردد والاعتذار والتلفيق ، الطفل يبوح بكل ما يدور بخلده من كلمات ، والكبير بحكم الخوف يناور في الاقوال
كاجمل ما في ذلك العالم الساحر البريء ، الروح البيضاء الخالية من الدنس والكذب والادعاء والمباغتة ، والعلاقة العفوية لتلك المرحلة تبقى من اجمل الذكريات ، ومن اجمل التجارب الانسانية الصادقة ، التي يصعب على الانسان اعادتها في تجارب اخرى ، لان الصعوبة تكمن في جمع السذاجة والعمق ، وبث مزايا متناقضة في 
روح واحدة . 
 
حلوى
العالم عند الطفل قطعة حلوى ، وكوب من الشاي والحليب ، وثوب مشرق الالوان ، واصدقاء لا يعرف ما هي ديانتهم والى اي عرق ينتمون . صوت ينهض من اعماق النفس المحزونة يصيح  : عودي الينا يا شمس طفولتنا الغاربة ، فنحن بحاجة للركض في تلك الدروب المبللة بالمياه ، ونحن ملهوفون لغبار الطباشير الذي يثير في صدورنا الحساسية ويوقظ السعال . ونحن مشتاقون لالعابنا القديمة . العشق الممتد من زمان الطفولة الى فترة الشباب ، لا يمكن نسيانه وطي صفحاته بسهولة كما تتصورون ، فهناك الكثير من المشتركات العالقة في الذاكرة ومنها : تبادل الدفاتر المدرسية وقت الامتحان ، الذهاب في سفرات طلابية مختلطة ، الى بحيرة الحبانية اوالى ملوية سامراء الشاهقة . تفتيش الحقائب عن كسرة خبز منسية ، رائحة البرتقال الملتصقة بجسدها الطافح بالحنين ، التراب الذي كنا نأكل منه حين نجوع ، تقاسم الحلويات في فرصة الدرس الاخير ، المظلة التي نحتمي تحتها وقت المطر . ( من زغر سني همت بيك وتعبت وياك / عودك بدمي سكيته والكلب يرعاك/ كل يوم راعي الك / خنت العهود شجاك / حسبت بيك الوفه / ما جنت اظن تخون ). 
 
ملاعب الصبا 
الانسان الغريب يحن الى بيته القديم ، يتوق الى ملاعب الصبا ، يشتاق الى شوارع ترك فيها اكثر من ذكرى ، يحلم بالاماكن المندرسة ، يدخل في المطاعم الشعبية زهيدة الثمن ، والغنية باكلاتها النافعة . تلك التي الى الان رغم الزمان البعيد ، ما زالت تحاصر انوفنا من مسافات بعيدة روائحها الزكية . العاشق يهفو الى حبيبه البعيد ، لانه وجد فيه الاهل والاصدقاء والاحبة ورائحة الوطن ، وكل مباهج زمان المراهقة الغابر ، من فرح وردي يتراقص فوق اجنحة الفراشات ، ومن ارواح متصالحة مع مشاعرها النقية ، المصفاة من الانانية والكذب والصغائر والشرور . يتمنى العودة الى ذلك الجانب الطفولي الطاهر ، دون استعطاف للحبيب ، او طلب الرأفة من حاقد بغيض ، فسماء الطفولة تمطر فوق العطاشى ، وتغسل القلوب المدنسة بالمطر الذهبي الناعم ، وتزيح الادران وتبث الخير والحياة في الاجساد الهامدة  ، فتعود الحيوية والنضارة ويرجع التفاؤل. ( كلمن يحن الهله / واني الك حنيت / كلمن يود الهله / واني الك وديت / يابو الوفه ياحلو / مرني بحلاتك شوك / مرني عطش واني الك / غيمة مطر زغيت ). 
 
قناديل
كم غنى اليك القلب اغنيات جميلة ، تحت اضواء القناديل الباكية ، والعجيب انك تدعي النسيان ، والعشاق على مقربة منك يرددونها في الطريق ، باحساس من اكتوى بنار حارقة . هل تذكر كيف كنت تطير من السعادة حين تسمع غنائي  ،وكيف تلامس السحاب بيديك عندما اغني ، وكيف تغرق في حلم طويل . اتساءل في حيرة وذهول : اين حفظك السريع للاغاني ، اين تصفيقك الحار عند انشادي المواويل الصعبة الاداء ، اين تلك النظرات الساحرة ، وكل ذاك الهيام اين اختفى  . انا واثق ان صوتي يطوف معك في كل الارجاء ، ومهما تحاول مسح اغنياتي من الحاسوب والمسجل والذاكرة ، تنسى وتغنيها في ذات يوم ويفتضح امر حبنا من جديد ، فالغناء يجعل الارض لا تدور ، بل ترقص على انغام الايقاع المجنون ، الذي يوقظ اسرارنا المختبئة تحت القمصان . ( غنيت الك غنوة ومواويل / واشتاك الك ليل وقناديل / وانت ولا مره تمر طيف / يا حيف تعبي ويا ك يا حيف / يا ما كلت انت حبيبي / يا ما كلت انت طبيبي / حسبالي من فززني شوكك رديت ).