فجأة امتلأت السماء بالطائرات الغريبة.. أحجام وألوان وأشكال مختلفة.. الجميع رفع رأسه الى الأعلى لينظر الى هذه الطائرات التي تسير وفق خطوطٍ تشبه أسراب الحمام أو حتى أسراب الصقور.. مرّة بخطوطٍ أفقية وأخرى عمودية مثل خيطٍ طويلٍ أو مثل جناحي طائر.. ثمة استغرابٌ حلّ في المدينة الصغيرة التي تغفو على نهرٍ كانت أمواجه تضرب الشوارع حتى إن الحكومات العتيقة بنت جدارا من الاسمنت على ضفتيه لمنع الفيضانات، لكنه الآن يشكو العطش ويمرّ به الماء مثل أدعية صلاةٍ الاستسقاء.
خرج الناس من بيوتهم حتى كأن لم يبق فيها أحد في داخلها.. اشرأبت الأعناق الى الأعلى دون أن يضعوا أيديهم فوق عيونهم اتّقاء الشمس، فالمشهد يحتاج الى رؤيةٍ كاملة.. كان الأطفال يضحكون ويمرحون ويتقافزون ويصرخون بآبائهم وأجداهم عن نوع هذه الطائرات.. لكن أحدا لا يعرف عنها شيئا.. هي طائرات تبدو صغيرة ولكنها تشبه الطائرات التي تقل المسافرين مرّة أو تشبه الطائرات الحربية.. من بعيد.. من الجهة الأخرى للشارع العريض صاح أحد الرجال الطوال، هذه طائرات حربية.. أصيب الناس بالرعب، وتوزّعوا وتدافعوا وسقطوا وصرخوا وكأن شاشاتٍ عريضةً عرضت عليهم صور القصف.. أصيبت النساء بالهلع فاحتضنّ الأطفال بين صدورهن فيما كان نصيب الرجال الخوف والارتباك.. أغلق أصحاب المحال أبواب محالهم وتوقّفت حركة السيارات والدراجات النارية والستّوتات الصغيرة التي ملأت شوارع المدينة في الآونة الأخيرة.. سارع البعض الى جلب بندقيته وآخرون مسدساتهم ورفعوا سبطانتها باتجاه السماء.. ومخيلتهم تعيد صور القصف العديدة ومنها قصف مدينتهم الصغيرة قبل أكثر من 15 عاما.. لكن الطائرات مرّت دون إحداث شيء وصارت السماء صافية.. التقطوا الانفاس وافترشوا الحدائق والجزرات الوسطية وأبواب البيوت.. وراحوا يتهامسون مع بعضهم ويتحاورون ويصرخون ويتجادلون ويتشاجرون ويحلّلون ما شاهدوه ..تكاثرت بينهم الآراء فبعضهم عدّه ملامح شياطين أرسلتها السماء وهي نذير شؤم فالناس تركوا العبادة والصلاة واتجهوا الى الملذّات والرقص، والنساء يمشين بلا حجاب.. وبعضهن قال إن السماء تعلمهم بوجوب الوقوف مع الوطن والحكومة فهناك من يريد احتلال البلد.. وآخرون قالوا انها مجرد طائرات مرت من هنا وإلّا لقصفت.. وهناك من تساءل أنه لو كانت شياطين لكان لها أثرٌ في السلوك.. واستهزأ بعضهم إنه لو كانت برهان سياسة لرمت على المدينة قصاصات ورق لبيانات حكومية لكن الحكومة مشغولة بالصراع.
لكن شابًّا صاح من بعيد وهو يقف في وسط حديقةٍ عامًة ان السبب من مستغلّي السماء والكهنة والفقهاء حين تكاثروا وصاروا في كلّ مكانٍ حتى لا تجد مكانًا إلّا وهم فيه، وصار كلامهم ليس موجّهًا للعبادة والنصيحة ونبذ الخلافات، بل الى طاعة الرموز والموت من أجلهم.. اعترض رجلٌ في عمر الخمسين من عمره على قول الشاب وطالبه بإرجاعه الى فمه.. ثم وهو يقف ملوّحًا بيديه شارحًا لمعلوماته.. إن هذه الطائرات جاءت لتستطلع المكان والعودة من جديد للحرب، ففي الأرض خزّن الله الياقوت والزمرد ولم يكتشفه أحد إلّا هم، فلابد من موتنا لكي يحصلوا على الأرض بعد ان انتفت الحاجة الى النفط الذي صار يأتي إليهم بالأنابيب والبواخر.
تكاثر الحديث وتشعبّت الأقاويل من جديد حتى انقسم الجميع الى جماعاتٍ ومللٍ وأحلافٍ وكتلٍ، كاد الأمر يتطوّر الى صراع والاصابع على زناد البنادق والمسدسات والبعض سارع الى إزاحة الأغطية عن المدافع ووضع رمانات يدوية في الأحزمة.. مما جعل النسوة يصرخن بالرجال أن يدخلوا البيوت.. لكن الصراخ يعلوا ولا يهدأكان هناك ثلاثة شبّان كانوا يقفون على مبعدةٍ من دائرة الحوارات، ينصتون لما يبثّ من تحليلاتٍ وتفسيرات قالها رجلٌ ملتحٍ مغطّى الرأس وبيده مسبحة.. قال وهو يصعد فوق صخرةٍ موضوعةٍ في الجزرة الوسطية العريضة.. قال إن هذه الطائرات هي موعد إعلان نهاية الحياة واقتراب يوم القيامة وإن المخلّص سيأتي ليقود العالم الى الخير والعدل بعد ان امتلأت جورًا وقتلًا وظلمًا.. أشار الثلاثة الى الرجل الملتحي يعلمونه بعودة الطائرات الى سماء المدينة .. كانت هذه المرّة بارتفاع أقلّ وتبين شكلها بشكلٍ جلي.. أصاب الجمع ارتباك من جديد وصوّبوا سبطانات الأسلحة باتجاه السماء.. وأثنوا ركبهم خلف مؤخّراتهم وأغمضوا عينًا واحدة وهم يسمعون صوتًا أن واجهوا الاعداء بقوة.. لكن الشباب الثلاثة صاحوا بصوتٍ واحدٍ أن هذه طائرات مسيرة تحمل تنقل رسائل العمل والعشق والزمن، بعد أن وجدوا إننا لا نقوى على الحركة وليزداد قولنا صراخًا فلا نرى من يومنا سوى الشتيمة.