يحكى أنَّ ..

ثقافة 2019/09/03
...

ياسين النصيِّر
 
يحكى عن الدرس الأكاديمي بانه درس جاف ومقنن ومنظم وهو ما يتعارض مع حرية التأليف ،ومرونة النص واضطراب الفقرات والفصول والجمل، وهذا هو الغالب على كتاباتنا الأدبية، خاصة نحن الذين لم ندرس دراسة اكاديمية عليا، تنظم ليس سلوكنا التعليمي منهجيا، بل تنظم حتى حياتنا وعلاقاتنا بما فيها كتابة المقال. شعرت بمهمة المنهجية الأكاديمية وأنا اخوض تجربة عملية، فكانت النتائج كبيرة ومهمة لي شخصيا، بحيث مكنتني من أن اعيد طريقةتفكيري بما اكتبه، وعليَّ أن أنظم نفسي قبل أن ابدأ بالكتابة. مع ترك هامش اساس داخل العمل الكتابي للمرونة والخربطة الكلامية والخروج قليلا عن خطوط السير التي تعتمدها العقلية الأكاديمية في تقديرها جودة السياقة أم رداءتها.
ويحكى أيضا، عن اختيار مواضيع للدراسات العليا الأكاديمية، والمتابع لطبيعة الدراسات ومواضعيها في السنوات الأخيرة، نجد الجامعة قد انفتحت على الإنتاج الثقافي العراقي لدرجة محمودة، مما يعني أنها قد وضعت الإنتاج الثقافي العراقي بدرجاته المتنوعة تحت دائرة المعاينة النقدية والإجرائية المنهجية التي تربط بين الدرس والإنتاج الثقافي 
المعرفي. 
وكانت الحصيلة مبهرة حقا،بحيث درس الكثير من الشعراء والروائيين والقصاصين والنقاد ووضعوا في قائمة المبدعين وكلفوا لقراءة انتاجهم نخبة من الدارسين الشباب، وكانت المحصلة أن الكتابات الشعرية والروائية والنقدية لا تهمل في شارع الثقافة بل هناك من يرصدها ويقيمها ويقترحها موضوعًا للدراسات العليا، وهذه ايجابية أكاديمية ما كنا نراها في السنوات قبل 2003، بل كنا نرى اسماء تتكرر ومن زوايا مختلفة للدراسات، ومن بين الاسماء لا ترد إلا نخبة صغيرة من المثقفين العراقيين.
وبالرغم من أهيمة النتاج العراقي ووضعه موضع الأهتمام للدراسات العليا، إلا أن ثمة اخطاء جزئية ترافق هذا الإهتمام، لا تعني الاختيار ولا منهج البحث،وأنما تعني ان يكون الكتاب الذي نال صاحبة درجة القبول أن يكون مصدرا لطلبة الدراسات العليا، مع العلم أنه ليس وحيدا في مجال 
اختصاصه.
لأن مؤلفه هو احد الاساتذة الذين يدرسون مناهج الدراسات العليا، لا نقول عن ان الكتاب غير جيد،ولكن نقول أن مؤلفه لم ينتج غيره،ولم يفتح عينيه على المتشابه لموضوع دراسات محايثة، ولا عن الكيفية التي تطور بها موضوع الدراسة نفسها، هذا الخطا سببه العلاقات التي تربط بين بعض الأساتذة ببعض،وهي طريقة قد لا تكون مكتملة الحق عندما يوجد بجوار المصدر مصادر أخرى، وبالأهمية
نفسها. 
فنجد البعض من الاساتذة، وهو لم يمض على وجوده إلا بضع سنين، يتباهى امام الآخرين، أن كتابه أصبح مصدرا للدراسات، فيقدم الشكر لمن اختاره، المسألة المنفرة هي تقديم الشكر، وليس أحقية مادة الكتاب، مما يعني أن الطريقة في التعليم ليست تعلما بل تعليماً. 
أي أن ثمة كتبا تُفرض على الطالب، وليس الطالب هو من يختار الكتب التي تغني ميدانه، وبالتالي ستكون ثمة مجموعات من المصادر المعتمدة عندما تشترك عقول الاكاديميين في البحث عنها 
مهملة.
نعم بإمكان الأستاذ أن يقترح مجموعة كتب في الموضوع نفسه من بينها كتابه، هذا دال على سعة أفق التعليم،وتعدد مشاربه، الأمر الذي يوسع من دائرة البحث.
تتركب ماهية الدراسة العليا لأي موضوع من جملة شروط، قرأنا بعضها في الكتب المنهجية التي تنظم الدراسات، وتعلمنا بعضها من الأطروحات التي تحولت لاحقا إلى كتب نقدية ومعرفية، وهناك خطوات فردية يعتمدها طالب الدراسات العليا لإغناء بحثه وطريقة تفكيره، ومنها عدم الاستسلام لما يعطى له، بل يعتمد مبدأ الشك الديكارتي والنيتشوي في أية معلومة بما فيها كتب المصادر. 
وهذا  ما كان سائدا لدى القلة من الأساتذة أيام الفترة السابقة، من أن الإتجاه القومي والبعثي لا يقبل بأية مصادر اخرى للطلبة إلا تلك المصادر التي تؤكد هويته السياسية والثقافية، حتى أنه ابتدع دراسة الثقافة القومية بمعزل عن مصادرها التاريخية معتمدا مصادرها السياسية وخاصة من هم في قيادة البلاد. 
قد يكون ذلك أحد حقوق السلطات عندما تموّل الجامعة ويصرف عليها، لتجعلها جزءا من ركب السلطة، في حين ان الجامعة مفهوم وعلم ووجود لا علاقة لها بأية سلطة حاكمة، علاقتها بالمجتمع، ببنيته بحاجاته وبمؤسساته ،ووجدت اساسا للتنمية وليس لانتاج كوادر لم تجد طريقها للعمل. فالحديث عن بنية الجامعة ومؤسساتها، حديث عن مقومات الدولة الحديثة، فألشان الجامعي لايقل عن الشأن العلمي ولا عن الشأن الأمني والإقتصادي والثقافي، إن وضع في الإطار الصحيح من عملية التعلم.
وبما أن الجامعة هي  المصدر الذي يغذي كل مؤسسات المجتمع بالخبرات، تحتم عليها أن تكون في مصاف مؤسسة القضاء ومؤسسة الأمن الوطني وبمؤسسة التخطيط وبمؤسسة المحافظة على هوية اللون،وأن بمستوى ان تؤلف خطاب البلاد. مهمتها العلمية والإنسانية، تفرض عليها أن تكون كذلك، والغريب اننا نستطيع ان نتحدث عن جامعاتنا في الخمسينيات وصولا إلى بداية الثمانينيات، بفخر وتقييم، ويشهد العالم للكفاءات الطبية والهندسية والعلمية لما تحقق وتنجز،لكنها اليوم تداوي أمراضها القديمة بأمراض جديدة، في مقدمتها عدم الانتفاح على منجزات العلوم والفلسفة في العالم. خاصة في ميداني الكفاءة 
والتقنية.