انهيار تحالف بن سلمان في اليمن يعني المتاعب لترامب
بانوراما
2019/09/13
+A
-A
أليكساندرا ستارك*
ترجمة: انيس الصفار
في 7 آب الماضي اندلع القتال في مدينة عدن، العاصمة الفعلية لليمن، حيث وقفت قوات المجلس الانتقالي الجنوبي، وهو تحالف من قوى المليشيات الانفصالية التي تتلقى الدعم والتدريب من الامارات العربية المتحدة، بمواجهة حكومة عبد ربه منصور هادي المعترف بها دولياً والتي يدعمها الجانب السعودي. سلط هذا النزاع الضوء على جملة من التجاذبات القديمة بين الاهداف الاماراتية والسعودية بخصوص اليمن، وهذا بدوره كشف عن انشقاق أخطر بين نهجي السياسة الاقليمية اللذين ينتهجهما هذان الشريكان المهمان للولايات المتحدة أمنياً، الأمر الذي قد يوقع واشنطن وسط تشابكات نزاع اقليمي آخر ليزيد الموقف تعقيداً على إدارة ترامب في مواجهتها مع إيران.
يحاول الزعماء السعوديون والاماراتيون التهوين من شأن هذا الخلاف، بيد أن المعارك الأخيرة التي وقعت داخل عدن أعطت برهاناً واضحاً على أن نهج السعودية ونهج الامارات فيما يخص الصراع اليمني كانا متعارضين منذ بداية تدخل التحالف في الحرب الاهلية اليمنية أواخر آذار 2015. فالأولوية العليا بالنسبة للسعودية تتمثل بتأمين حدودها الجنوبية بوجه الحوثيين، لذا كانت تركز جهودها على مقاتلة هؤلاء في الشمال وتمد حكومة هادي بالدعم باعتبارها الكيان الحاكم الوحيد الجدير بالاعتراف على الصعيد الدولي.
بالمقابل سعت الامارات العربية لاستغلال دورها في الصراع كي توسع منافذها العسكرية والاقتصادية باتجاه منطقة القرن الافريقي ومضيق باب المندب، الذي يعد حلقة وصل حيوية لخطوط التجارة الدولية. ورغم إجماع قادة السعودية والامارات على اعتبار إيران خطراً جدياً يتهددهم معاً تبقى دولة الامارات اكثر عرضة للمواجهة نظراً لقربها الجغرافي وارتباطاتها التجارية الأوسع مع ايران. هذا الوضع شجع الاماراتيين على أن يكونوا اكثر براغماتية في التعامل مع طهران، فهم رغم انضمامهم الى السعودية بشجب نفوذ إيران ونشاطاتها العسكرية عبر المنطقة تراهم يحافظون على حسن العلاقات الدبلوماسية معها (ولو بمستوى منخفض منذ العام 2016).
حساب دبي للمصالح
جاء الانفصال الصريح من داخل عدن بين القوات المدعومة سعودياً وتلك المدعومة إماراتياً تأكيداً على محاولات دبي مؤخراً للنأي بنفسها عن سياسات السعودية في المنطقة. ذلك أن القادة الاماراتيين باتوا يشعرون بالقلق من أن يفلت زمام التوترات المتصاعدة مع إيران الجارة عن السيطرة فيلحق ضرراً جسيماً بالنموذج الاقتصادي لدولتهم، الساعية لتنويع مصادر دخلها ونبذ الاعتماد على النفط عن طريق تطوير قطاعات أخرى مثل السياحة وصناعة المال والاقتصاد. كما يبدو ان القادة الاماراتيين قد تعبوا من تحمل قسط من اللوم بسبب ما حلّ باليمن من اصابات المدنيين وانتهاكات حقوق الانسان والأزمات الانسانية المهلكة على اوسع نطاق. ففي الوقت الذي تتهم فيه المليشيات المدعومة إماراتياً بارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الانسان تبقى حملة القصف الجوي السعودية بلا تمييز هي السبب بإلحاق القدر الأعظم من الاصابات بالمدنيين اليمنيين.
أخذت الإمارات على عاتقها المسؤولية فنشرت قواتها جنوب اليمن وراحت تقدم التدريب والدعم للمليشيات الجنوبية المحلية وتنفذ عمليات مكافحة الارهاب ضد تنظيم القاعدة وتنشط التنمية الاقتصادية في المنطقة. لذا كان المجلس الانتقالي الجنوبي شريكاً طبيعياً لهذه العمليات.
كانت عملية توحيد اليمنين جعلت كثيرا من الجنوبيين يرفعون اصواتهم بالشكوى من ضعف تمثيلهم داخل الحكومة المركزية الجديدة وتوزيع موارد الدولة، ولكن ما من مجيب. هذا التباعد في التوجهات والتركيز أزم العلاقات وصعد الضغط على خطوط التصدع التي خلفتها اتفاقية التوحيد سنة 1990 والتي انضم بموجبها اليمنان الشمالي والجنوبي الى بعضهما. كان البلدان كيانين سياسيين منفصلين منذ قرون وكان الاتحاد السوفياتي مصدر دعم خارجي مهم لدولة اليمن الجنوبي، المسماة جمهورية اليمن الشعبية الديمقراطية، حتى أواخر الثمانينيات. أدى الغياب المفاجئ للقوة العظمى الراعية الى حدوث الاندماج في ربيع العام 1990 بيد أن توحيد اليمنين تجاهل شكوى كثير من الجنوبيين بشأن تمثيلهم السياسي والاقتصادي.
تواصلت شكوى الجنوبيين خلال فترة حرب الانفصال الاهلية سنة 1994 وما اعقبها من قيام حركة شعبية جنوبية باسم "حراك" أواسط العام 2007. بعد ذلك نشط المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي انبثق من "حراك"، للتحشيد من اجل التصدي لهجوم الحوثيين سنة 2015. ليس للحوثيين موقف واضح ازاء انفصال الجنوب ولكن اهتمامهم ينصب بالدرجة الأساس على موطنهم صعدة شمال البلاد، أما الجنوب فلا يزال هناك تأييد واسع فيه للانفصال على مستوى الأوساط الشعبية، وأقرب مثال على هذا المسيرات الحاشدة التي خرجت مؤخرا تأييداً لاستيلاء المجلس الانتقالي الجنوبي على عدن.
الانسحاب الاماراتي
معارضة المجلس الانتقالي الجنوبي وحكومة هادي المشتركة للحوثيين جعلت منهما حليفين، ولو بالاسم، ولكنهما بقيا بعيدين عن بعضهما. أما اليوم، وبعد الدعم والتدريب الذي قدمته الامارات، فقد وجدت القوات التابعة للمجلس الانتقالي نفسها تزداد تنظيماً وقدرة وسلاحاً كلما طال أمد الصراع، رغم بقائها مؤيدة لاستقلال الجنوب. وعلم القادة السعوديون أن اهداف قيادات المجلس الانتقالي لا تتفق مع اهداف حكومة هادي (أكد ذلك القتال الذي اندلع بين قوات المجلس وحكومة هادي في عدن مطلع العام 2018) بيد أن السعودية كما يبدو فضلت التغاضي لصالح التمكن من جمع حلفاء يعينونها في حربها مع الحوثيين.
في العلن يزعم السعوديون والاماراتيون أنهم من اوثق الشركاء بشأن اليمن والمنطقة، ولكن ستراتيجياتهم المتباعدة على الأرض بدأت الآن، بعد مرور اكثر من اربع سنوات من القتال، تعقد (إن لم نقل تدمر) مساعيهما للإبقاء على موقف معارضة موحد تجاه الحوثيين، خصوصا بعد أن بدأت الامارات تخفف مشاركتها العسكرية من جانب واحد معترفة صراحة بأن حرب اليمن لا يمكن كسبها عسكرياً وأن سمعتها على الصعيد الدولي نالها من الضرر اكثر مما تحتمله. كذلك كانت تلك إشارة منها بأن مهمتها بتأمين الموانئ والنفوذ السياسي للجنوب قد انجزت من حيث الجوهر.
يشير الانسحاب الاماراتي، الذي بدأ خلال الصيف الحالي، الى أن الامارات العربية تحاول التحرر من تشابكات تورطها في اليمن، ولكن من غير الواضح كيف ستغير السعودية ستراتيجيتها بعد أن فقدت هذا الشريك المهم، والقيادة السعودية نفسها لا تبدو واثقة مما ستفعله. ويظهر القادة السعوديون الى الان بصورة المنتقدين لتصرفات المجلس الانتقالي الجنوبي في عدن بينما هم يضاعفون جهود ستراتيجيتهم العسكرية المنصبة على هزيمة الحوثيين، ولكن ليس من الواضح كيف سيمكنهم تحقيق هذا الهدف بغياب الدعم الإماراتي.
التعليقات التي تظهر عبر وسائل الاعلام السعودية تعكس حالة عدم اليقين هذه إذ تظهر شخصيات اعلامية معروفة مثل عبد الرحمن الراشد، المقرب من القيادات السعودية الحالية، لتؤكد ضرورة نيل اليمنيين الجنوبيين حقهم بتأكيد استقلالهم ذات يوم، ولكن ليس الآن. (كانت السعودية تتدخل في شؤون اليمن منذ وقت طويل، بضمنها مساندة الانفصاليين خلال حرب 1994. ولكن الحكومة السعودية أخذت تركز منذ العام 2015 على صد الحوثيين ودحرهم وتوحيد البلد تحت إدارة حكومة هادي).
تعارض الستراتيجيتين السعودية والإماراتية مع بعضهما سيشكل عقبة كبرى بالمنظور الأوسع أمام التوصل الى تسوية سياسية دائمة في اليمن، لأن عدم التوصل الى اتفاق بشأن بنية الدولة المستقبلية هو الذي أخرج عملية الانتقال السياسي، التي سميت "مؤتمر الحوار الوطني"، عن مسارها عقب أحداث الربيع العربي، تلك العملية التي شجعت عليها بقية دول الخليج بعد انطلاق تظاهرات الاحتجاج الضخمة التي أدت الى استقالة الرئيس علي عبد الله صالح من منصبه. فشلت عملية "مؤتمر الحوار الوطني" بعد أن رفض كل من الحوثيين وحراك نتائجها، وأدى هذا بدوره الى فتح الباب أمام الحوثيين للاستيلاء على صنعاء سنة 2014. لذا فإن اية تسوية سياسية اليوم تتطلب الالتفات الى هذه الشكوى الى جانب الصراع بين حكومة هادي والحوثيين.
تسوية هشة
كشف القتال في عدن ايضاً أن مجرد خفض التحالف مستوى تدخله لن يكفي لحل مشكلة الصراع، لأن اليمن بقي منقسماً الى دولتين زمناً اطول بكثير من زمن اتحادهما، وحتى لو اسفرت محادثات جدة مع قادة المجلس الانتقالي الجنوبي عن تغيير وزاري يمني يضم شخصيات من المجلس المذكور للحكومة فإن حل هذه المعضلة البنيوية سيبقى سطحياً ومؤقتاً. قبل انسحاب الامارات والسعودية من اليمن ينبغي عليهما أولاً استغلال كل ما في جعبتهما من وسائل الضغط على وكلائهما المحليين للدخول للمفاوضات والالتزام بالتسوية السياسية.
التسوية السياسية قد تعني من الناحية الواقعية منح الجنوب قدراً معيناً من الحكم الذاتي، على الأقل، أو حتى انفصاله على المدى البعيد. كذلك سينبغي على الحكومة المركزية أن تكون حكومة وحدة أو حكومة محاصصة تضم الحوثيين ايضاً والفصائل الاخرى التي يدعمها التحالف السعودي. لقد عجز التحالف عن دحر الحوثيين عسكرياً طيلة سنوات من القتال، وبعد انسحاب الامارات العربية لم يعد لخيار النصر العسكري الحاسم مكان على الطاولة.
لهذا يجب على القادة السعوديين أن يتنازلوا ويسلموا بحقيقة أن الحوثيين سيكونون جزءاً من الحكومة المركزية اليمنية، ولكن الرياض لا تزال ترفض الى الآن التسليم بهذه الحقيقة، وجزء من السبب هنا هو أن حرب اليمن صار ينظر اليها على انها البصمة المميزة لسياسة ولي العهد الامير محمد بن سلمان، وأن الانسحاب قد يعتبر اذلالاً شخصياً له بينما هو يسعى لحشد الدعم السياسي الداخلي.
كذلك سيتحتم على محادثات السلام التي ترعاها الأمم المتحدة أن تبدأ بضم ممثلين عن المجلس الانتقالي الجنوبي. لقد أجرت القوات التابعة لهذا المجلس انسحاباً (اسمياً) من بعض المنشآت الحكومية لمدينة عدن بتاريخ 17 آب، ولكنها لا تزال محتفظة بالسيطرة الفعلية على مدينة زنجبار مركز محافظة أبين المجاورة. ورغم أن المجلس الانتقالي الجنوبي سيحضر مؤتمر القمة الذي ترعاه السعودية فإن إقدامه على الانسحاب من هذا الموقع المواتي مسألة مستبعدة، على الأقل أنه لن يفعل هذا ما لم يحصل بالمقابل على تنازلات سياسية مهمة من الرياض، وهذا قد يكون معناه من الناحية الواقعية أن يعلن المجلس عن ولائه "اسمياً" للحكومة المركزية مقابل حصوله على دعم التحالف لإنشاء كيان في الجنوب يتمتع بالحكم الذاتي كجزء من التسوية الشاملة.
ويبدو أن ولي العهد الاماراتي محمد بن زايد زار مكة والتقى الملك السعودي سلمان وولي العهد محمد بن سلمان بسرعة عقب تفجر ازمة عدن لتتضمن دلالة على مدى اهمية اليمن بالنسبة للعلاقة السعودية الاماراتية، فالصراع المستمر هناك قابل لأن يتحول الى مصدر توتر بين الرياض وأبو ظبي ومؤهل للتصعيد السريع. كذلك من شأن هذا الصراع أن يسلط ضغطاً على المبادرات السعودية الاماراتية المشتركة الأخرى في المنطقة، ومن بينها الخلاف الدبلوماسي مع قطر وتقديم الدعم للحلفاء الاقليميين، مثل المجلس العسكري الانتقالي في السودان.
اللقاء مع ايران
أي خلخلة تصيب الستراتيجية الاقليمية الإماراتية السعودية ستكون لها ايضاً تداعيات جسيمة على الولايات المتحدة نظراً لكون العلاقات السعودية الاماراتية هي العمود الفقري الذي تعتمد عليه ستراتيجية ادارة ترامب في المنطقة. قرار الامارات بإعادة تكييف وضعها، تجنباً لخوض حرب مكلفة مع إيران، سوف يعقد ستراتيجية إدارة ترامب الخاصة بإيران الى درجة كبيرة.
تجلى هذا بوضوح عبر محاولات الامارات العربية خفض التوترات مع إيران ابان أزمة ناقلة النفط. فقد أوفدت الامارات وفداً الى طهران قبل مدة للتباحث في شؤون الأمن البحري لمنطقة الخليج، ورغم محاولة وسائل الاعلام الاماراتية التقليل من اهمية هذه اللقاءات فإنها تكشف مدى القلق الذي يشعر به الإماراتيون من ان ترتد حملة "الضغط الاقصى" التي تمارسها الولايات المتحدة ضد إيران بنتائج عكسية تطلق شرارة صراع مع إيران تكون له آثار مدمرة على دولة الإمارات. بل إن الواقع يقول بأن حملة إيران لتصعيد الضغط على الخليجيين تثبت بوضوح أن الامارات ستكون هدفاً قريباً متى ما تفجر الصراع. فبصفتها شريكاً أمنياً يؤوي منشآت تعود للولايات المتحدة يتوقع استخدامها خلال اية حرب تنشب مع إيران، ومنها قاعدة الظفرة الجوية وميناء جبل علي، ستكون الإمارات عرضة للهجمات السبرانية الإيرانية فضلا عن هجمات أخرى يشنها عليها حلفاء إيران، ناهيك عن إغلاق مضيق هرمز والتهديدات الأخرى لخطوط الملاحة الدولية.
رغم رفع المسؤولين الأميركيين من شأن القوات العسكرية الإماراتية واعطائها لقب "اسبارطة الصغيرة"، كاشارة منهم الى قدراتها العسكرية، فإن اندلاع الصراع مع جارتها إيران سيسلط شدّاً هائلاً على قواتها البرية، التي تقل عن 20 ألف جندي مستعدين للنشر. عدا ذلك أن السمعة التي اكتسبتها دولة الإمارات كواحة للاستقرار وسط منطقة ابتليت بالصراعات سوف تتضرر جراء أي حرب مع إيران، وقد يكون هذا الضرر دائماً لا يرجى إصلاحه. النموذج الاقتصادي الإماراتي قوامه قدرة هذه الدولة على اجتذاب الأعمال والاستثمارات الاجنبية والسياحة، وأي صراع ينشب مع إيران سوف يلحق ضرراً بالغاً بعلاقات دبي الاقتصادية معها ايضاً.
بيد أن الاختبار الحقيقي لهذه العلاقة قد لا يأتي إلا بعد أن ينتخب رئيس أميركي جديد خلال العام 2020 أو 2024. فرغم أن القيادة السعودية تسير على الطريق مع ادارة ترامب حتى منتهاه، متجاهلة كما يبدو بقايا سخط واشنطن عليها بسبب جريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي والخسائر بين المدنيين جراء حملة القصف الجوي السعودي على اليمن، يشعر القادة الاماراتيون بمزيد من القلق من أن تتحول علاقتهم الثنائية الى قضية يتجاذبها الحزبان داخل الولايات المتحدة.
يضع الاكاديمي الاماراتي عبد الخالق عبد الله الأمر بتعبير أكثر صراحة فيقول: "هل تريد حقاً وضع بيضك كله في سلة ترامب؟" ذلك أن طبيعة العلاقات السعودية الإماراتية قد تتغير جذرياً إذا ما اثبتت الامارات أنها اكثر خبرة وبراعة من السعودية في التحول بولاءاتها الى الادارة الأميركية الجديدة واكتسابها قرباً وحظوة لدى واشنطن يفوق ما اكتسبته السعودية.
* أليكساندرا ستارك باحث أقدم في مشروع الإصلاح السياسي بمؤسسة {نيو أميركا} ومرشحة لشهادة الدكتوراه في جامعة جورجتاون.