مئات القتلى.. والممرّض واحد

بانوراما 2019/09/14
...

ميليسا ايدي
 
ترجمة: بهاء سلمان
وصل الممرّض الجديد للعمل ضمن وحدة الرعاية المركّزة لمستشفى دلمنهورست، مع رسالة تزكية تصفه بأنّه يعمل "باستقلالية وضمير"، فقد تصرّف ذات مرة أثناء إحدى الأزمات برد فعل "دقيق" وكان "مصيباً على نحو عملي".
لم تعطِ هذه التزكية أيّة إشارة الى أن المسؤولين عن مستشفاه السابق في مدينة اولدينبيرغ الألمانية قد ساورتهم شكوك عميقة حيال أعداد الموتى أثناء فترات مناوبة الممرّض "نيلز هوغل"، أو أنّهم منعوه من الإتصال مع المرضى وأبعدوه عنهم بشكل فعّال. وبعد فترة قليلة، أثيرت شكوك مشابهة من داخل مستشفى دلمنهورست، ففي غضون أربعة أشهر، ماتتْ مريضة اسمها "بريجيت" كانت تحت إشرافه، وتلاها مريضان آخران، ولم يفصح عن الأسماء الكاملة للجميع وفق القوانين الألمانية لأجل مراعاة الخصوصية.
 
أخطاء بيروقراطيَّة
اليوم، يعدُّ هوغل، 42 عاما، القاتل المتسلسل الأكثر غزارة في تاريخ ألمانيا بوقت السلم، ولربما على مستوى العالم بأسره، إذ تشكُّ السلطات باحتمال قتله عمداً لما يزيد عن ثلاثمئة مريض طيلة خمس سنوات ابتداءً من سنة 2000. 
ومع ذلك، استلزم الأمر أكثر من عقد لإجراء تحقيق كامل من قبل الدوائر المختصة، التي استخرجت أكثر من 130 جثة في ألمانيا وبولندا وتركيا، مع بذل جهود هائلة لتحديد مدى جرائمه. وقد اعترف هوغل بقتل 43 شخصا، ولم يسهم بقتل 52 آخرين، وأنكر قتله خمسة من المرضى.
وأثارت أعداد القتلى والمدى الزمني الذي تطلبته الشكوك المحيطة بسلوكياته لكي تظهر الى العلن تساؤلات مزعجة داخل ألمانيا، ومنها إن كان الإذعان نفسه للتسلسل الهرمي، والميل لإجراءات عملت في السابق على تسهيل جرائم عهد النازيّة، قد سمحت لهوغل بأعمال قتل متواصلة لمدة طويلة جدا. 
يقول "كريستيان مارباخ"، الذي كان جدّه أحد ضحايا هوغل: "إذا كان من الممكن أن تشهد ألمانيا أكثر من 300 وفاة على مدى 15 سنة بشكل غير منظور، فماذا يمكن أن يحصل بعد ذلك؟ وماذا يستلزم الوضع من الناس لكي يقفوا وينتبهوا لما يجري؟".
وبحسب "فرانك لوكسترمان"، الزميل السابق الوحيد الذي حضر للشهادة علنا حول العمل بمعية هوغل، فإنّ: "ثقافة التغاضي وإبقاء رأسك منخفضا تبعد عنك الشبهات بشكل مطلق". ويقضي هوغل عقوبة السجن مدى الحياة بسبب قتله مريضين ولعبه دورا مهما بمقتل أربعة آخرين. ويواجه حاليا محاكمة هي الثالثة له منذ سنة 2006. 
لكنّه هذه المرة، يواجه تهما بقتل مئة مريض آخر، 36 منهم في المستشفى الرئيسي لاولدنربيرغ، المدينة الأنيقة التي تتفاخر بجامعتها وقصرها الذي يعود الى القرن السابع عشر، و64 آخرون بعد انتقاله الى مستشفى دلمنهورست، إحدى ضواحي بريمن، إذ تبعد نحو 20 ميلا.
 
بطل الإنقاذ الطبي
وأمر القاضي "سيبيستيان بوهرمان" بالتحرّي عن أقوال ثمانية زملاء سابقين لهوغل للاشتباه بإدلائهم شهادات أثارت شكوكا بالتزوير لاحتمال كذبهم على المحكمة، أو إخفاء أدلّة خلال المحاكمة الحالية لأجل تغطية بعض الهفوات.
وأدت حالة الكشف عن الإهمال الواضح من قبل سلطات المستشفى مسبقا الى تحقيقات جنائية لجرائم أخرى، فقد وجهت تهم لطبيبين وممرضين أقدمين من مستشفى دلمنهورست بالقتل الخطأ بسبب ارتكاب أخطاء جسيمة، ويتوقع أن يدلي هوغل بشهادته عند انعقاد جلسة المحكمة خلال الأيام القليلة المقبلة.
ويشير زملاء قدامى من الأيام الأولى لهوغل بعمله ضمن مهنة التمريض الى أنّه اكتسب شهرة لنفسه كمهني محترف يمكنه معالجة حالات شديدة يوشك فيها المرضى على الموت. 
في الواقع، يقول المدعون العامون إنّه اختلق أوضاعا مكّنته من وضع الحياة والموت بين يديه، فقد كان يتحكّم بإعطاء جرع دوائيّة مفرطة من التي تتسبّب بإحداث سكتات قلبية كي يتلافاها ويسرع بمحاولة إسعاف المرضى وإعادتهم الى الحياة على نحو بطولي؛ وأطلق زملاؤه عليه لقب "رامبو غرفة الإنعاش"، وكافؤوا مهاراته بعقد مصنوع من أنابيب الحقن.
ومن بين حالات الوفاة التي بلغت 411 حالة شهدها مستشفى دلمنهورست خلال السنوات الثلاث التي عمل فيها هناك، حدثت 321 حالة منها خلال مناوبات عمل هوغل أو مباشرة بعد انتهائها، بحسب سجلات المستشفى؛ ولا تعلم السلطات تحديدا عدد المرضى الذين تورط بإنهاء حياتهم.
وقدمت الى المحكمة الحالات الخاصة فقط بالضحايا الذين كان من الممكن استخراج جثثهم وتشريحها للبحث عن آثار عقاقير استخدمت لمعالجة نبضات قلب غير منتظمة، لكن بامكانها أن تكون قاتلة عندما تكون الجرعات عالية.
 
شخصيَّة أنانيَّة
أما الدكتور "كارل هاينز باينه"، استشاري طب الأعصاب ورئيس قسم الطب النفسي بمستشفى سانت مارين بمدينة هام الألمانية، فقد رجّح أن هوغل يعيش تحت تأثير النرجسية المفرطة، ويعبر عن حاجة ملحّة لسد نقص شديد في تقدير الذات. وتتحدث التقارير عن طبيب إنكليزي يُدعى "هارولد شيبمان"، قد مرَّ بحالة مشابهة، إذ أدين سنة 2000 بقتل 15 مريضا بواسطة حقن قاتلة، وتوصلت تحقيقات حكوميّة الى قتله ما لا يقل عن 215 فردا، وقد أقدم على الانتحار سنة 2004.
"يعدُّ نيلز هوغل واحدا من هذه الأقلية المتطرّفة"، وفقا لتعبير الدكتور باينه، الذي يتواصل بأبحاثه عن القاتلين المتسلسلين بحرفية طبيّة منذ سنة 1989؛ مشيرا الى أن ما صدمه حول شهادة هوغل هو فقدانه لروح التعاطف، حتى حينما كان يتحدث مع أسر الضحايا. 
ولأول مرة منذ العام الماضي، أدلى هوغل، الذي بقي صامتا ومتجهّما خلال الجلسات السابقة، بشهادته أمام المحكمة؛ وكان غالبا ما يتذكّر تفاصيل لافتة للنظر تحيط بحالات الموت، أما فيما يتعلق بالأسئلة الأخرى، فقد أبدى أجوبة ساخرة تقريبا، من قبيل: "ليست لديّ ذاكرة، لكن لا يمكنني استبعاد التلاعب والمناورة". ولخمس مرات، أنكر هوغل قتل أي
مريض.
لم تقدم أية التماسات بالرحمة الى المحكمة الألمانية، لكن قبل يومين من انتهاء محاكمته الأخيرة، أبلغ هوغل المحكمة أنّه "يشعر بالخزي" عند قراءة السجلات الطبية الكاملة لمرضاه، الذين تراوحت أعمارهم بين 34 الى 96 سنة: "كل حالة مفردة، حتى بمجرّد قراءتها، أشعر حيالها بأسف غير 
متناه". عمل الاعتذار على إثارة المزيد من التساؤلات بإمكانية تصديق تلك الكلمات.
 ويقول "آرني شميدت"، الذي يشغل حاليا منصب رئيس شرطة مدينة كوكسهافن، وقاد تحقيقا خاصا من سنة 2014 لغاية 2017 بحالات القتل لصالح شرطة اولدنبيرغ: "شخصيا، أنا مقتنع تماما أن المتهم ما زال يعيش تحت تأثير نرجسيته حتى هذا اليوم". ولا يعترف هوغل إلّا حينما يتم تقديم أدلة كافية تدينه، بحسب شميدت.
ملاحظات ولكن
نشأ هوغل في بلدة فيلهلمشافن شمال ألمانيا، مع والديه وشقيقته الكبرى. كان والده ممرّضا، وقرّر هو عندما كان صبيا أن يتبّع خطى والده.
وظهرت هناك حالات محددة، لاحظ زملاؤه خلالها أن المرضى كانوا فجأة يحتاجون لعلمية إنعاش عندما يكون هوغل ضمن مناوبة العمل؛ وأبلغ الممرضون المحكمة ان الناس يموتون بعد دخولهم ردهات العناية المركزة بسرعة، ولكنّهم ليسوا بأعداد كبيرة جدا.
تقول سوزانا، إحدى زميلات هوغل: "في البداية، كان الواحد منا يعتقد ان الأمور آمنة، غير أن نقطة ما تتوقف عندها فتتنامى لديك مشاعر 
الارتياب".
وأشارت الى أنّهم كزملاء لهوغل، تحدثوا في مستشفى اولدنبيرغ عنه، لكنّهم لم يذهبوا الى مسؤوليهم، ولم يقدموا شكوى، خشية من تعرّضهم للتوبيخ، أو بسبب عدم اعتبارهم لهذا الأمر كشيء يتعلق بهم، في بلد يهتم المواطن جدا فيه بخصوصيته وبعدم التدخّل بشؤون غيره.
وعندما أبلغت ممرضة أخرى في المستشفى رئيسها عن شكوكها بتصرفات هوغل، لم يتخّذ أي إجراء، ولم تقم تلك الممرضة بمتابعة الموضوع مطلقا. 
وأعرب الدكتور باينه عن أمله بإثارة المحاكمة لحالة الإدراك لما يحصل من إخفاق في تحديد الشكوك، وخرق القواعد العامة التي تحكم المستشفيات والمؤسسات البيروقراطية الكبرى الأخرى في ألمانيا، مستشهدا بشعار كانت بروسيا تتبناه مع البيروقراطية التي مرّت بها البلاد: "الإبلاغ عن المعلومات يجعل المرء خاليا من المسؤولية"، وهو مماثل بشكل مخيف لشعار نازي يقول: "العمل يحررك من المسؤولية"، وهذا معناه أنّه يكفي ان تورد معلومات عن فعل خاطئ يثير الريبة من دون إتخاذ فعل آخر لضمان إيقافه: "كعامل في قطاع الرعاية الصحية، ينبغي عليك معرفة أن مسؤوليتك تصب لمصلحة مرضاك، وليس لصورة المستشفى"، بحسب الدكتور باينه.
 
كشف المستور
بقي الأمر على حاله حتى حزيران 2005 عندما تحرّكت "رينات تي"، وهي ممرّضة مناوبة من مستشفى دلمنهورست، بعد اكتشافها لإشراف هوغل على حالة مريض مصاب بسرطان الرئة، يُدعى "ديتر ماس"، وأنّه تمّ إغلاق منظومة دعم الحياة للمريض، وكانت سلة المهملات تحتوي على أربع زجاجات فارغة لعقاقير لم توصف للمريض، فأخذت عيّنة دم بسرعة وأرسلتها الى الفحص المختبري. 
بحلول اليوم التالي، توفي المريض؛ وعندما أظهرت نتائج الفحص وجود جرعة عالية خطرة من عقار للقلب، التقى الطبيب والممرّض المسوؤل عن الحالة لمناقشة الوضع، إلّا أنهما تركا هوغل ينهي مناوبة عمله. في تلك الساعات الأخيرة، كان القاتل يُجهز على ضحيته النهائيّة "رينات روبير"، 67 سنة، لينهي جرائمه المتعاقبة.
وقال الضابط شميدت أثناء إعلانه لنتائج تحقيقه سنة 2017: "مسار الأحداث التي حصلت مؤخرا تعد رمزية بسبب فشل أولئك المسؤولين عن تقييماتهم الخاطئة بالكامل لما جرى من حقائق واقعية ونتائج كارثية تلتها، وقع أثرها النهائي على المرضى". لقد غيّر التحقيق مساره فقط بعد سنوات من ضغوط سلّطها أفراد أسر الضحايا، وأدت الى المحاكمة الحالية، إذ افتتح القاضي بوهرمان المحاكمة بدقيقة صمت تكريما للضحايا. وقد ظهرت الإجراءات وكأنّها تشبه لجنة لتقصي الحقائق أكثر من كونها محاكمة جنائيّة.
وقال القاضي بوهرمان لأحد الشهود: "الغرض من هذه المحاكمة تقديم إجابات لأفراد أسر الضحايا الذين فقدوا أحباءهم، ومساعدتهم على معرفة وفهم الكيفية والأسباب". 
غير أن "ماريا تاتر"، 47 عاما، تتوقع المزيد، فقبل ثلاث سنوات، أخبرها رجال الشرطة أنّهم يشتبهون باحتمال وفاة زوجها، "ادنان"، قتلا على يد هوغل؛ ومنذ ذلك الحين، بقيت تعاني من حالة إحباط شديدة، جعلتها لا تتمكن من أداء الكثير من الأمور، بضمنها قيادة السيارة الى المتجر، وتطالب بكشف الحقائق كما جرت: "في نهاية المطاف، العدالة ينبغي تطبيقها مهما كلف الأمر".
 
صحيفة نيويورك تايمز الأميركية