مـعـمـاريـون يـضـعـون الـبـيـئـة فـي الـمـقـام الاول

بانوراما 2019/09/21
...

ترجمة واعداد: مي اسماعيل 
 
هل يتعين علينا التوقف عن بناء المطارات والعودة لاستخدام القش في السقوف والطين للجدران؟ تقدم لنا الأزمة المناخية العالمية فرصة لتوظيف الذكاء الخلاّق، لكن قيم العمارة بحد ذاتها بحاجة لإصلاح جذري راديكالي. يعزى نحو أربعين بالمئة من حجم غازات الدفيئة المنبعثة في بريطانيا الى البيئة المبنية، ويمكن القول أن النسبة تفوق هذا التقدير بقليل (وفقا لتعريف البيئة المبنية المتبع). إنها نسبة عالية، تطرح فكرة بأن تصاميم المباني وتخطيط المدن يمكنهما المساهمة بمقاومة أزمة المناخ.
يحب المعماريون اعتبار أنفسهم بأنهم أشخاص حسنو النوايا مهتمون بالمصلحة العامة، كما أن العمارة مهنة تجتذب أولئك الذين يريدون تغيير العالم نحو الأفضل.. وما هو الاعتبار الأهم من إيقاف الانهيار البيئي والاجتماعي؟ فهو اعتبار يجعل المشاحنات حول النمط المعماري أو الشكل تبدو تافهةً بالمقارنة.. فكيف ستبدو العمارة، أو (وهو الأهم) كيف ستكون، إذا ما وضع المهتمون بها المناخ ومشاكله حقا في صلب اهتماماتهم؟ هل سيتوقف استخدام الكونكريت؛ لأنه مادة متهمة بكونها مؤذية فعليا؟ وهل سنشهد نهاية الأبراج المغلفة بالألواح المصنعة، التي يجب تجديدها كل ثلاثين سنة؟ أو قد نشهد نهاية البناء كليا؟
 
انها أسئلة طرحها بداية هذه السنة 17 معماريا من الفائزين بجائزة “ستيرلنغ” المرموقة، وقدموا “إعلان المعماريين” لمجموعة من المبادئ ليعملوا بها مستقبلا، ويأملوا أن يتبعها غيرهم من الآن فصاعدا. 
تساءل البعض عن مدى جدية اولئك المعماريين؛ خاصة أن بعضهم يصممون مطارات كبرى؟ كما أن ما يسمى “تصميما مستداما” أمر يتباين تصنيفه وتعريفه من معماري لآخر؛ فحين يعتبر “المجلس العالمي للمباني الخضراء” (منظمة يدعمها أعضاء صناعة البناء) مشروع “بارانغارو-Barangaroo” الضخم ذو الأبراج متعددة الطوابق على رصيف ميناء سيدني الاسترالي بناء مستداما، يرى آخرون في تقنيات البناء التقليدية بإستخدام الطين أمثلة لتجارب بارعة تغني عن الحديد والاسمنت . 
وما بين هذين المثالين نجد مباني مثل- “منزل الفلين-Cork House” قرب إيتون- بريطانيا (المرشح لجائزة ستيرلنغ)، وهو مثال يصعب انتقاده أو تصنيفه واقعيا في خانة معينة!
 
تقليل “الطاقة المجسمة”
يقول المعماريون في إعلانهم (الذي يمكن اعتباره حلا وسطيا عقلانيا): ليس للمعماريين (ومعهم المقاولون والزبائن والمهندسون وكل المشاركين في صنعة البناء) أي عذر لعدم تقديم أقصى جهد لتقليل تأثير مبانيهم على البيئة لأقصى حد ممكن. وعليهم أخذ كل شيئ بعين الاعتبار؛ حتى المسافة التي يقطعها الحجر من المحجر الى موقع البناء (على سبيل المثال)، وهل سينتهي المطاف بمواد البناء أن تصبح موادا لطمر الأرض حينما يجري هدم المبنى! لا يكفي تقليل ما يسمى “كلف الإستخدام”، وهي- التدفئة والتهوية والاضاءة والماء والنفايات والصيانة؛ بل يجب أيضا تقليل “الطاقة المجسمة” الداخلة في البناء والتهديم؛ وتعني هنا- عمليات استخراج الاسمنت  وصهر الحديد وأفران الطابوق وشحن المواد الى الموقع وخزنها في الأماكن المطلوبة ثم اخراجها للاستعمال والتخلص من المتبقي والتالف.  
كانت صناعة البناء تركز حتى وقت قريب على كلف “الاستخدام”؛ فعلى سبيل المثال وضعت “لوائح البناء البريطانية” معايير عالية بشكل مقبول لأداء المباني، لكنها لم تتحدث عن “الطاقة المجسمة”. 
وهذا ليس بالأمر المنطقي؛ فلا جدوى من تشييد مبنى يقدم أداءا مبهرا عند الاستخدام إذا استغرق الأمر عقودًا أو قرونا لاستعادة تكلفة الطاقة المهدورة التي دخلت في بنائه.
قد يتطلب الأمر إتخاذ قرارات مؤلمة؛ كالتخلي عن استخدام الكونكريت الحديث المحبب أو نوع معين من الطابوق، وقد يعني مواجهة معضلات صعبة حقا.. 
فالكونكريت (إذا استعمل بشكل صحيح) يقلل معدلات انخفاض درجات حرارة المبنى ويبقيه دافئا (وهو امر جيد في الدول الباردة)؛ لكنه مصنوع من الاسمنت، وهو مادة مسؤولة بمفردها عن نحو ثمانية بالمئة من انبعاثات ثاني اوكسيد الكربون عالميا (وبالتالي هو أمر سيئ). 
 
هل من مطارات “خضراء”؟
لا يجب النظر الى التصاميم المستدامة “Sustainable designs” على أنها مجرد حل تقني يمكن تنفيذه بدفع المال الى المقاول ليغطي فقرات أكثر في قائمة مسبقة الاعداد، أو شراء أفضل المعدات “السحرية” المتوفرة للتكييف؛ بل يجب أن تندمج مع فن العمارة.
الحلول المثالية يجب أن تساعد المباني لتكون إجمالا وبصورة شاملة: أفضل وأطول بقاءا وأكثر بهجة وجمالا.. وهذا ما تلخصه المعمارية البريطانية “أليسون بروكز” (من الموقعين على الاعلان) قائلة: “يجب التعامل بسخاء مع نوع المواد التي يفضلها الناس؛ فهذا ما يجعل المبنى يدوم”.. وهذا يعني استخدام المزيد من الحجر الطبيعي والخشب، ولهذا السبب حاز مشروع “منزل الفلين” على الاعجاب والقبول؛ فمادة إنشائه جميلة وقابلة للتجديد وإعادة التدوير، وعالية العزل الحراري. 
يتعين على مهنة العمارة إعادة النظر بنظم تقييمها وبشكل راديكالي؛ أي- ما الذي تعتبره جيدا أو رديئا. 
فالمعماريون يتدربون منذ الدراسة على تقديم أداء يتسم.. “بالمنافسة والمهنية المتفردة”؛ حسبما يرى المعماري “ستيف تومبكينز” (أحد العناصر الفاعلة من موقعي الاعلان).. فهم ينالون أمجاداً أكبر لتصميم مبنى جديد واحد أكثر مما لو توصلوا لوسيلة جيدة لعزل المباني القديمة 
حراريا. مع هذا، ولأن مواد البناء المستقبلية قد باتت معنا اليوم بالفعل، ولأن عملية الهدم واعادة البناء تستدعي استبعاد كل ما دخل في تشييد المبنى الأصلي؛ فمن المرجح أن يكون الأخير أكثر فائدة من الأول. 
ولكل تلك الأسباب، وإذا تابع كل معماري هذا المبدأ بمنتهى الإلتزام؛ فستحقق المهنة تقدما هاما. لكن مجموعة المبادئ الجيدة لا تجيب على تساؤل الاستمرار ببناء المطارات؛ الذي يسلط الضوء على حدود صلاحيات المعماري: إذ لا يعود الأمر إليه لتحديد مقدار السفر الجوي العالمي؛ مما يترك له فقط خيار رفض تصميم مباني المطار، أو المساهمة بجعلها “خضراء” بأكبر قدر ممكن. 
وكان هذا الأخير القرار الذي اختارته مكاتب معمارية مثل- “غريمشو” و”فوستر ومشاركوه” و”زها حديد للعمارة” (وجميعهم من الموقعين على الاعلان المعماري) ولهم تصاميم مطارات قيد التنفيذ.  
يعتبر المعماري “جيرمي تيل” (مدير مدرسة سنترال سانت مارتينز للفنون والتصميم) أن خيار أولئك المعماريون “مهزلة”؛ قائلا: “لا يمكن الحصول على مطار “محايد” من حيث نسبة الكربون، وعلى المعماريين أن يفعلوا أكثر من مجرد كونهم “أدوات حسنة النية” لما يسمى “صناعة استخراجية” تستنفذ الموارد.. يجب أن يكونوا ناشطين ومصممين معا”. 
 
تغيير التصورات المسبقة
يعتقد المعماريان- “ماريا سميث” و”فين هاربر” (وكلاهما من شباب العمارة الناشطين) أن الأوقات العصيبة تتطلب اجراءات جذرية. ولو اعتمدنا على رأي “الفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ” الذي انعقد أواخر سنة 2018 بأن لم يتبق سوى 11 سنة للحد من كارثة تغير المناخ؛ فأن الحلول المعمارية التقليدية ستكون بطيئة جدا لتحقيق أي نتائج ايجابية. 
وبحلول الوقت الذي قد ينجح فيه تطوير مدروس ومحسوب بعناية، بعد تداول ناجح للمدخلات والمخرجات التي دخلت في إنضاجه؛ سيكون الأوان قد فات! فلضمان التغيير المناسب يجب أن يتغير المنظور الى صنعة التشييد كليا؛ الأمر الذي يتطلب أيضا تغيير النظام الاقتصادي الذي يقف وراءه.. أي: الرأسمالية.
يتعين أن تأخذ العمارة بعين الاعتبار الفكرة الاقتصادية- السياسية عن تراجع النمو؛ والاقتناع بوجوب البحث عن بديل لمواجهة الارتفاع المستمر للناتج المحلي الاجمالي “GDP” (وهو الاداة الاساسية للاقتصاديات الرأسمالية). 
يضع المعماريان “ماريا سميث” و”فين هاربر” التفسير في خانة استخدام الموارد الموجودة بالفعل، ويدعوان للتركيز على “ما يجعل الحياة تستحق العيش”؛ بدلاً من خدمة “الأهداف النفعية للاستثمار والربح”؛ قائلين: “جميع مكونات الحياة الجيدة موجودة في عالمنا؛ وإنها مجرد مسألة تمكين الجميع من الوصول إليها”.
وهذا قد يعني (بالنسبة للعمارة) الاستفادة من تقنيات البناء في المجتمعات الأصلية، المستندة على مواد مستدامة متوفرة في البيئات المحلية؛ مثل- جدران الطين وقش السقوف، معززة بالتكنولوجيا المعاصرة.
قدم المعماريان نماذج لآلات تصنع الطابوق من الطين وألواح الجدران من خيوط القنّب والجير (الكلس)، ونماذج لوحدات بناء مصنوعة من أقمشة “الجينز” المكبوسة أو أكواز الصنوبر المطحونة المخلوطة براتنج الصنوبر. 
هناك أيضا تقنيات لإنتاج أعمدة من أنسجة قوية (بشكل أكياس) مملوءة بالرمل أو الحصى، ونموذج لطابوق مصنوع من خيوط غزل الفطر “mycelium”.  ومن الأمثلة العملية على نمط التفكير هذا- سوق “إيلفورد” (من تصميم ماريا سميث) الذي سيفتتح العام المقبل.
هنا لا توجد أسس كونكريتية؛ بل هيكل خشبي تثبته صخور موضوعة في أقفاص معدنية يمكن رفعها وإعادة نصبها في مكان آخر عند الضرورة؛ بإقل كمية ممكنة من الجهد والنفايات. وهذا نمط يقترحه المعماريان لتوسيع الغرف أو إضافة أجنحة الى المنازل.. “بدلا من استيراد حديد التسليح من الصين!”؛ كل ما يتطلبه الأمر هنا التفكير بشكل مختلف عن تصوراتنا المسبقة لشكل توسعة المنزل الجديدة!   
لكن هناك بعض الثغرات في تلك الأفكار الثورية؛ فإذا كان التحرك لمواجهة الأزمة المناخية أمراً ملحٌاً يتطلب تصرفا عاجلا؛ ربما لا يمكننا الانتظار حتى يتغير الأساس الاقتصادي والاجتماعي بأكمله لصناعة البناء الحديث أولاً.
كما أنه ليس من الواضح كيف يمكن تطوير بعض التقنيات التجريبية المذكورة هنا بالسرعة المطلوبة وعلى نطاقٍ كافٍ لإحداث تأثير ملموس. لا يدّعي أولئك المعماريون أن لديهم أجوبة على جميع التساؤلات؛ كما لا يبدو أن معماريين أكثر اعتدالا منهم يمتلكونها أيضا. 
لكن ما يتفق عليه الجميع أن أي شخص يعمل في حرفة التصميم والبناء عليه بذل كل ما يمكن لتخفيف تأثير تلك المهن على المناخ.. وهو أمر قد يقودنا (إذا حالفنا الحظ) الى عمارة أفضل. 
 
روان موور- صحيفة الأوبزرفر البريطانية