ظاهرة الحزن في الثقافة العراقيَّة

ثقافة 2019/09/21
...

استطلاع / صلاح حسن السيلاوي 
 
ما الذي يجعل ثقافتنا مرتبطة بالحزن،ولماذا بقيت محتفظة بملامحه لتنشرها على مدى قرون من تاريخها؟ حتى أننا نجد الإبداع الذي وصلنا عبر التاريخ مبتلاً بالدمع وإن كانت لغته مترفة ومحملة بأسئلة الذات والعالم،قد يكون الحزن أحد مقدسات الذات المبدعة ومحفزاتها،ولكن هل يمكن له ان يتحول من باعث لأسئلة الحياة والموت ولا عقلانية الوجود، إلى باعث لتشابه النفوس وانكسارها، وهل هنالك خطورة كبيرة تنتج عن غياب العقل في لحظات التصاعد العاطفي للحزن،تلك الخطورة المتمثلة بغرقنا في أمواج شكلياته المتوالدة من دون الغوص في ماهيته الإنسانية، من دون الانتباه إلى أنه أحد خصوصياتنا التي لابد لنا التفكر كثيراً بمسبباته وأنساق تواجده.
الحزن الشرقي 
الروائي عباس خلف يرى أن جذور الحزن العراقي لا تختلف عن مثيلتها العربية التي تكيفت مع الصحراء والبداوة وهما عاملان فاعلان في تكوين شخصيته على حد قوله مشيرا الى أن الدراسات الحديثة أثبتت أن البداوة والصحراء تولد التغريب بتجلياته النفسية والإنسانية والاجتماعية والدليل أن ما أنتج إبداعيا من شعر ومقامة ونثر يتسم أغلبه بنبرة الحزن.
وأضاف خلف موضحا: كما لعب الفقر والمرض والهجرة في العصور اللاحقة دورا في تأجيج مشاعر الحزن وأمام هذه العوامل المشتركة تزداد الحيرة والغموض في العيش وتبدأ الارهاصات تشكل ملامح تلك المعاناة التي لا يمكن التحرر من قيودها من دون التعبير عنها، فنرى أن النخب الثقافية ونتيجة الممارسات الفكرية والمعرفية استطاعت أن تترجم هذه الأحاسيس بشكل واضح وجلي وبلغة إنسانية متدفقة بالجمال والإبداع كما هو الحال مع قصائد السياب وبلند الحيدري ونازك الملائكة والبياتي،وهكذا تتبادل الصور ورسائلها من قلب المعاناة لتغدو خيالا يذوب في نكهة الحلم، ولكن السؤال الأهم، هل يمكن أن يزول الحزن لمجرد الكتابة؟ لا اعتقد ذلك; ان(الحزن الشرقي) إن صحت التسمية، شب على قراءة انكسارات محيطه الاجتماعي والتربوي والأخلاقي فلا يستطيع أن ينتزع من هاجسه ذلك الخوف مادام الوجع الكلي يتربص به وجع الفقر والحرمان والهجرة والمرض والخوف والإحباط وهنا يمكن للدولة بوصفها راع لمصالح أبنائها من النخب المثقفة  أن تخفف من وزر معاناتهم بأشياء في متناول اليد وسهلة التطبيق اذا توفرت الجدية والنية الحسنة مثل التأمين الصحي وعيش رغيد وسكن لائق.
 
أبوية الحزن 
الشاعر عماد جبار أشار إلى عدم اقتصار صفة الحزن على العراقي إلا أنه يراها موجودة فيه بشكل مفرط وأضاف جبار قائلا: 
أهم ركائز تشكيل ذات الإنسان هما الأب والأم،هذا المزيج من العطف والقوة، وهما يشكلان قيمه وطريقة تعامله مع نفسه ومع الآخرين والمحيط. نأتي إلى تقييم المجتمع العراقي وهو مجتمع أبوي يرث الأب فيه قيما معينة قاسية ومتصلبة، وهو الذي يشكل ابنه وابنته حسب منظومة القيم التي ورثها وعاشها، وشدته وقسوته تعتمد على خضوعه لهذه القيم او تفكيكها او السير بالضد منها،وهذا تابع لمستوى تعليمه ووعيه وقدرته على تغيير عاداته.
الغالب في تشكيل الأبن هو القسوة في مجتمعنا العراقي، ولهذا  نحن ننتج نخبا سياسية تؤدي بنا إلى الحروب دائما. وعموم المجتمع العراقي يرى الغضب فضيلة، وان الذي يغضب وينفعل هو الرجل الذي يعتمد عليه.وهنا قد نشأت بمرور الزمن قيم مختلفة عن القيم المؤسسة للثقافة الإسلامية التي تدفع الإنسان إلى التروي والحكمة وتبين الأمر. وهذا كله بسبب ان الغضب وتفجره هو الصفة الغالبة على المجتمع العراقي. 
وقال ايضا: هذا الغضب يترسب في روح العراقي بسبب الاب لكن مشاعر الذنب تجعل الفرد يخرجها إلى أي هدف ممكن في الخارج، لذلك تجد ان العراقي يغضب من الشخص الخطأ وفي الموقف الخطأ وبدرجة مفرطة اكبر بكثير من الموقف. هذا الغضب وجد مسربا إلى كل المساحة الاجتماعية وكل المؤسسات، وهناك مؤسسات كثيرة وظيفتها إهمال الإنسان وعدم تقديره. والغضب طاقة مدمرة تأكل الروح ولا يمكن استعمال العقل معها. لاحظ ان هذا الغضب عملية مستمرة على مدى عقود طويلة خلفت اجيالا من العراقيين محطمين.
الفرد لدينا يصبح حاوية لكل من هو أكبر منه، فالاب ومن يكبره سنا يهينه، بالتالي ينشأ الإنسان مضطرباً فاقداً للحرية، الجميع ينتقده، الجميع من حقهم ان يعطوا آراء فيه،وهو مستباح.عملية تشكل ذات الإنسان في مجتمعنا عملية مريرة. وكل هذا لا بد أن ينعكس في ذات المبدعين، وتجد فيها هذا الحزن القاتم.
 
حزن السومريين 
القاص أحمد محمد الموسوي لفت بإجابته إلى أن المؤرخين المتخصصين بتاريخ بلاد ما بين النهرين القديم يؤكدون على أن السومريين –وهم أصل العراق- كان لهم مواكب للحزن في مواسم معينة ينوحون فيها ويبكون في طقوس دينية مرتبطة بالميثولوجيا السومرية والبابلية بعد ذلك،التي تعبر ربما عن جزع ويأس من هذا العالم المليء بالشرور.
وأضاف الموسوي بقوله: لقد استمرت هذه المواكب إلى يومنا هذا مع اختلاف مباعثها ودواعيها،ولكنها تعبر تعبيراً صادقاً عن تغلغل الإحساس بالحزن في الشخصية العراقي،الذي تراه يحفل بمشاعر الحزن أكثر من احتفاله بمشاعر الفرح،ويفضل الأولى على الثانية إذا ما اجتمعتا،فتجده يلغي أفراحه بسبب حزن جاره أو قريبه،ومع هذا يبقى السؤال عن مصدر هذا الحزن المهيمن على صدور العراقيين، قديماً وحديثاً،هل هو نتيجة الميثولوجيا والنصوص الدينية،أم العكس،أي أنه السبب في مشاعر الحزن المخيمة على نصوص الميثولوجيا والدين.
فالنصوص يضعها البشر ويفيضون عليها من روحهم، ولذلك أرى أن الأقرب للحقيقة هو أن الشخصية العراقية مجبولة بفعل التنشئة على الحزن،ومتشربة به،وذلك بسبب هالات الحزن المخيمة على الأم العراقية التي تنقلها إلى أبنائها عن طريق الإيحاء،بسبب ما تعانيه المرأة العراقية من ضغط واضطهاد شديدين،لأنها هي من يقع عليه عبء العمل في البيت وفي الحقل وعلى طول النهار وعرضه في ظروف بيئية ومعاشية صعبة للغاية جعلت منها كائناً حزيناً، وخصوصاً في ساعات الخلوة مع الأطفال،إذ تبدأ التنهيدات تنثال بالحزن مع(الدللول يالولد يبني)وغيرها مما حفظته لنا الذاكرة الشعبية، ابتداءً من(أبيات الدارمي)المملوءة حزناً وعذوبة حببتها للذائقة وجعلتها المتنفس والمنفس لآلام عموم العراقيين. فالعراقيون قديماً وحديثاً يرضعون الحزن مع ما تدره أثداء أمهاتهم، ليكون عونهم على تجرع مرارة الحياة وزادهم اليومي.    
 
نتاج تراكمات 
عمران العبيدي قال: الحزن ظاهرة بارزة في مجمل الحياة العراقية التي رسمت شكلها في نطاق متشبع بالأسى، وهذا الحزن الطاغي هو نتاج طبيعي لتراكمات عانى منها المجتمع  ولم يحضَ بالاستقرار والهدوء فقادت الشخصية العراقية الى التماهي مع حالة الحزن التي برزت كثيرا في الغناء العراقي الذي هو انعكاس لكلمات وحالات سطرتها روح الشاعر التي سيطرت عليها مسحة الحزن.
الظروف المحيطة بالشخصية العراقية جعلت منها شخصية مرهفة الحس وعاطفية وهي امتداد طبيعي لبيئة مهيئة لذلك. فالمجمتع العراقي مجتمع متماسك يتحسس بعضه آلام بعض مما يجعله متأثرا بمحيطه الاجتماعي والبيئي .ولاننسى أن مدن العراق في نشأتها حول الأنهر جعل من أبنائها ذو حسية عالية، فالطبيعة ايضا لها انعكاساتها على ذلك اذ جعلت من الانسان العراقي انسانا شديد الحساسية والتأثر.
وأضاف العبيدي ايضا: أنا لا انظر الى مسحة الحزن هذه التي تتمظهر في الكتابة الشعرية وفي الغناء على انها حالة سلبية دائما بل هي دليل على أن إنسان هذا المحيط يمتلك حسا انسانيا عاليا.
ولكي لاننسى ان الشخص العراقي على الرغم من حالة الحزن البادية على كتاباته وعلى فنونه الا انه يمتلك من حالة المرح التي لاتضاهيها اي شخصية،بل انها شخصية تمتلك مؤشرات الاستمتاع بالحياة بشكل جميل وما حالة الحزن الا انطباع أصبح جزءاً من متعة يمارسها الإنسان للتعبير عن وجدانياته وحب وعشق يمارس بشكل طبيعي وليس بالضرورة تعبيرا عن مأساوية وسوداوية الحياة.