كانت أمامي صورتان لتمثالين مختلفين، وبمكانين مختلفين، إنما لشخصية واحدة، إنهما لكلكامش الرافديني.
أحد التمثالين كان على بحيرة في الصين، والثاني بمدينة سان فرانسيسكو. وتأكدت بعد تلك المشاهدة أن للتمثالين ما يناظرهما في مدن وبلدان أخرى.
كلكامش رمز كوني.
كانت فكرة الحياة والموت هي التي خلدت هذا الرمز. ة والتفكير وحدهما لا يخلدان إنساناً، فهذا موضوع شغل معظم البشر. لكن ما يخلد الإنسان بهما هو الأثر، الفكر عبر الأسطورة، ومع هذه الفكرة خلد العمل الأدبي الفذ بصياغته المبهرة. إنه أول أساطير البشرية. والبشرية تنظر لمثل هذا التراث بوصفه تاريخاً للإنسان وللحضارة التي ظلت على مدار التاريخ تتحرك ما بين الأماكن والقارات.
كنت في مرة في متحف برلين، في القاعة التي تحتضن محفوظات من التراث الرافديني، وكنت بحوارٍ عابرٍ مع شاب ألماني عن المعروضات. كان هذا الشاب مفتوناً بالعمل الأسطوري الساحر، ملحمة كلكامش، وكان يحفظ مقاطع منه بلغته الألمانية كما قال لي، لكن الشاب لم يعرف الصلة ما بين كلكامش والعراق حاضراً. كان يعرف أنه من حضارة وادي الرافدين لكن لم يكن يعرف الصلة ما بين هذه الحضارة والبلد الراهن، العراق.
كلكامش، ومعه عشتار وديموزي، وبمستوى آخر حمورابي ونبوخذ نصر، وسواهم، رموز كونية.
هكذا ينظر الناس هناك لتمثال كلكامش ولداعي ارتفاعه في مدنهم غير عابئين بأن التمثال لرمز لا صلة له بالهوية الوطنية للمكان. الهوية الوطنية تغتني وتزداد عمقاً كلما اتسع أفقها الإنساني.
نحن وحدنا الذين سنحترب ما بيننا، كلامياً في الأقل، إذا ما جرؤ أحد منا وفكّر بتمثال لأرسطو، أو افروديت، وآخر لنيوتن، ولأينشتاين، أو لهاملت وفاوست، أو لعمر الخيام، ولجلال الدين الرومي، أو لاوتسي، أو طاغور الذي زار بغداد .
هؤلاء، كأشخاص حقيقيين، أو كأبطال أسطوريين وشخصيات من نسج الخيال الأدبي، رموز تجاوزوا حدود الهويات الوطنية، إنهم أفلاك تدور في فضاء تاريخ الوجدان الانساني، سواء اختلفت أو اتفقت معهم ومع أفكارهم.
في مدن غربية مختلفة شاهدت تماثيل مختلفة للرمز الأفريقي المعاصر نيلسون مانديلا. مانديلا لم يعد أفريقياً حسب، إنه واحد من أساطير عالمنا المعاصر. لم تفكر هذه المدن بهوية مانديلا، وكان الأبهى من بين التماثيل التي ارتفعت لمانديلا تمثال له في ساحة البرلمان بلندن حيث شهد الزعيم الإفريقي الراحل افتتاحه عام 2007، إقامة التمثال بلندن وبالمكان الذي ارتفع فيه له دلالته الإنسانية ورمزيته عميقة المغزى في سياق التاريخ الذي خلق لنا أسطورة مانديلا. لا عقدة حين تكون المدينة والبلد بمثل الرحابة التي تبدو عليها لندن، المدينة الكوسموبوليتية الأكبر في العالم. لم أزر انكلترا سوى مرة واحدة وكانت ليوم واحد، قضيت خلاله اربع ساعات فقط في لندن، وشاءت المصادفة أن تضعني أمام التمثال وذكرى الرجل، وكان هذا في عام 2014.
كان ذلك النقص في معلومات الشاب الألماني لا يعني الكثير له، مع هذا فقد عبر عن سعادة حقيقية بما عرفه في المتحف من رجل التقاه بصدفة محضة. كان الشاب ينظر لكلكامش وأنكيدو كرمزين من عمل أسطوري إنساني كوني. نحن الذين نحتاج إلى أن يعرف هذا الشاب وسواه أنه يتحدث عن رمز صنعته حضارة لنا.
لم نفعل ما يجب أن نفعله.
كنت أنظر في الصورتين أمامي وافكر بإهمال وفراغ كبير لم نملأه بعمل لازم من أجل هذه الحضارات التي تمضي خطانا على تراب حفظ لنا تحته آثارها.
كان التمثالان مبهرين. وكان، وما زال ممكنا أن نحظى بنسخة لكل منهما.
من الممكن لناس هذه الأرض التي ظهر كلكامش واسطورته النادرة عليها أن تعمل مع فناني العملين الكبيرين على الحصول على نسخة منهما لتجد لكل منهما مكاناً مناسباً.
لعل من أحلام اليوتوبيا العراقية أن أفكر دائما بتحرير ضفاف الرافدين في جميع الأراضي العراقية من الشمال حتى اقصى الجنوب من أي بناء سكني.
لا مدن على الضفاف. ما الداعي الآن لذلك؟
واحد من دواعي التركيز على إقامة قرب نهر لا تنأى الصحراء كثيرا عنه هو الرغبة بالاستحواذ، نزعة احتكار النهر دون الآخرين. تتضاعف هذه النزعة حين يكون النهر موصلاً ما بين شرقي الأرض وغربيها. وكم كان هذا من دواعي حروب ومذابح وطغيانات شهدتها ضفاف النهرين الخالدين.
لكن إقامة العراقيين قرب النهرين كان لها دواعيها الإنسانية الأخرى.
كان العراقيون يقيمون مدنهم حوالي النهرين لتيسير نقلهم وتأمين أرزاقهم، زراعة وتجارةً، وللطف المناخ قرب نهر. وكانت الأفضلية بالقرب من النهر للزرع وليس للبناء الذي لم يكن بهذا التوسع والفوضى. كانت تقنيات الحياة المتاحة آنذاك هي ما يوجب على البشر الاقامة بالقرب من الأنهار. ما الداعي لهذا الآن؟
المدن، بموجب هذه اليوتوبيا التي أحلم بها، تنأى عن النهرين بما لا يقل عن 25 كيلومتراً، بينما تترك الضفاف للمزارع والبساتين، ولحدائق وتماثيل ومنحوتات، ولفراديس يؤتى من أجل تشييدها بأفضل مهندسي ومصممي الحدائق من مدن الحدائق الكبرى.
كثيراً ما فكرت بحديقة التماثيل. لا تكتمل الحدائق من دون تماثيل. التمثال هو ما يحرك حياة الشجر والطبيعة في المكان.
إنها أحلام، وهي يوتوبيا.