هجمات الطائرات المسيرة قلبت مفاهيم الحروب

العراق 2019/09/22
...

ترجمة: انيس الصفار      
الهجوم المدمّر الذي وقع على منشآت النفط السعودية باستخدام الطائرات بلا طيار والصواريخ لم يغير فقط ميزان القوة العسكرية في الشرق الأوسط بل أشّر نقطة تحول في طبيعة الاساليب التي تخاض بها الحروب على نطاق العالم.
ففي صباح يوم 14 أيلول الماضي تمكنت 18 طائرة مسيرة بلا طيار وسبعة صواريخ كروز (وهي جميعاً من انواع منخفضة الكلفة والتعقيد مقارنة بالطيران الحربي الحديث) من شل نصف انتاج السعودية من النفط الخام ورفع اسعار النفط في العالم بنسبة 20 بالمئة.
حدث هذا رغم انفاق السعودية مبلغ 67,6 مليار دولار على ميزانيتها الدفاعية في السنة الماضية ذهب معظمه على طائرات عسكرية ومنظومات دفاع جوي باهظة الثمن أخفقت كلها، كما هو واضح، في درء الهجوم. أما ميزانية دفاع الولايات المتحدة فتصل الى 750 مليار دولار، وميزانية مخابراتها الى 85 مليار دولار، مع هذا لم تعلم القوات الأميركية المرابطة في الخليج بما حدث إلا بعد أن انتهى كل شيء.
لقد طُرحتْ أعذار مختلفة لتبرير هذا الاخفاق، منها القول إنّ الطائرات المسيرة كانت تطير على ارتفاعات منخفضة جداً تعجز معها وسائل الرصد عن التقاطها، كما أن تلك الطائرات لم تراع الإنصاف حين أقبلت من اتجاه مخالف لما كان متوقعاً منها أن تسلكه. مثل هذه التبريرات تبدو مثيرة للرثاء عند وضعها بمواجهة التبجحات الرنانة الممتلئة زهواً التي اطلقها صانعو الاسلحة والقادة العسكريون عن مدى فعالية منظوماتهم التسليحية.
يحتدم الحوار والمناظرات اليوم بشأن ما اذا كان الإيرانيون هم من شنوا الهجوم أم الحوثيون، والجواب المرجح هو أن الاثنين قد اشتركا في التنفيذ، ولكن الإيرانيين هم من نسق العملية ووفر لها المتطلبات والوسائل. إلا أن فرط التركيز على تحديد الطرف المسؤول يصرف الانتباه عن تطور أهم من ذلك بكثير، وهو أن قوة متوسطة المستوى مثل إيران استطاعت وهي خاضعة للحصار، وبموارد وإمكانيات وخبرات محدودة، سواء منفردة أو من خلال حلفاء لها، أن تنزل ضربة مؤثرة بالسعودية التي تعد من الناحية النظرية أفضل تسلحاً كما يفترض أنها تنعم بحماية الولايات المتحدة التي تعد أكبر قوة عظمى في العالم.
نرى التردد واضحاً على الولايات المتحدة والسعودية بشكل خاص في الرد على إيران، والسبب هو أنهما باتتا اليوم تعلمان علم اليقين، وخلافاً لما كانتا تتصورانه قبل عام، أن هجومهما المضاد لن يمر مجاناً ولن يكون بلا ثمن، لأن ما حدث يمكن أن يتكرر وإيران لم تطلق عليها عبثاً تسمية “القوة العظمى في عالم الطائرات المسيرة”. منشآت انتاج النفط ومحطات تحلية المياه، التي توفر معظم الماء الصالح للشرب في السعودية، كلها اهداف مركزة ومناسبة اليوم أمام الطائرات المسيرة والصواريخ الصغيرة.
بكلمة أخرى أن مسرح العمليات العسكرية سيكون اكثر استواء بكثير في المستقبل لدى وقوع أي مجابهة بين دولة تمتلك قوات جوية متقدمة ومنظومات دفاع جوي عالية التطور وأخرى لا تمتلكها. لقد كانت الورقة الرابحة دائماً التي تلوح بها الولايات المتحدة وقوات حلف الناتو واسرائيل منذ وقت طويل هي التفوق الجوي الساحق على أي عدو مرتقب. فجأة انهارت هذه الحسابات، لأن أي طرف تقريباً يستطيع الآن أن يتحول بثمن يسير الى لاعب على مسرح القدرات الجوية. 
أوجز “أنتوني كوردسمان”، وهو خبير عسكري يعمل في مركز الدراسات الستراتيجية والدولية بواشنطن، اهمية هذا التحول حين كتب قائلاً: “الضربات التي اصابت السعودية تنطوي على تحذير ستراتيجي واضح مفاده أن زمن تفوق الولايات المتحدة الجوي في الخليج، والاحتكار الأميركي شبه التام لقدرات الضرب الدقيق، آخذ بالأفول سريعاً.” يوضح كوردسمان أن جيلاً جديداً من الطائرات المسيرة بلا طيار وصواريخ كروز والقذائف البالستية الدقيقة قد دخلت مستودعات التسلح الإيراني وبدأت بالانتشار الى ايدي الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان.
يذكر التاريخ العسكري أن نقاط تحول مثل هذه قد وقعت في الماضي، وذلك من خلال الظهور والانتشار المفاجئ لأسلحة سهلة المنال والانتاج بوسعها أن تحيل الوسائل الأكثر قدرة وتطوراً لدى الطرف المقابل الى وضع “كش ملك .. مات الملك”.
خير مثال على هذا هو الهجوم الذي وقع في 11 تشرين الثاني 1940 على خمس سفن حربية ايطالية كانت ترسو في قاعدتها في تارانتو. شنت ذلك الهجوم 20 طائرة بريطانية قديمة بطيئة الحركة من نوع “سورد فش” مسلحة بالطوربيدات انطلقت من حاملة طائرات. عندما انتهى الهجوم كانت ثلاث من السفن الحربية الخمس قد أغرقت أو مُنيتْ بإصابات فادحة في حين لم يفقد البريطانيون سوى طائرتين. جسامة هذا النصر، الذي تحقق بمثل هذا الثمن الزهيد، أنهت زمن تسيد السفن الحربية في البحر ليحل محله زمن هيمنة حاملات الطائرات القاذفة او المسلحة بالطوربيدات. كان هذا درساً التفتت اليه القوة البحرية اليابانية التي هاجمت بيرل هاربر بأسلوب مماثل بعد عام واحد من هجوم تارانتو.
في الاسبوع الماضي عرض السعوديون حطام طائرات مسيرة وصواريخ على جمع من الدبلوماسيين والصحفيين في محاولة لاقناعهم بأن الإيرانيين هم من يقف وراء تلك العملية الجوية. بيد أن أهم ما شهدت به تلك الطائرات المحطمة واجزاء الصواريخ هو أن المعدات والاسلحة التي زلزلت لتوها الاقتصاد العالمي لم تكن عالية التكاليف، حتى عندما كانت في اتم صحة وجاهزية للعمل. لأجل المقارنة نقول إنّ الصاروخ الواحد من نوع باتريوت المضاد للطائرات، وهو السلاح الدفاعي الاساس لدى السعودية والذي لم يثبت جدواه يوم 14 أيلول، تبلغ كلفته 3 ملايين دولار.
الكلفة وبساطة التكوين امران مهمان لأنهما يعنيان أن إيران والحوثيين وحزب الله، وأي بلد في العالم تقريباً، قادرون على انتاج الطائرات المسيرة والصواريخ بأعداد كثيفة تكفي لقهر أي وسائل دفاعية تتصدى لها.
ضع في المقارنة طائرة مسيرة لا يتجاوز ثمنها عشرات أو حتى مئات الاف الدولارات أمام مقاتلة واحدة من طراز “أف 35” التي يصل ثمنها الى 122 مليون دولار. هذه الطائرة باهظة الثمن الى حد أنها لا يمكن شراؤها إلا بأعداد محدودة جداً. وعندما تستوعب الحكومات في العالم واقع ما حدث لمنشآت النفط في بقيق وخريص سوف تبدأ بمطالبة قيادات قواتها الجوية بتقديم ايضاحات لتفسير دواعي انفاق كل تلك الاموال الطائلة ما دامت هناك بدائل فعالة ارخص ثمناً. وبالقياس على وقائع ماضية فإن القيادات الجوية وصانعي الاسلحة سوف يضطرون للقتال حتى النفس الأخير من اجل تضخيم ميزانياتهم كي يتمكنوا من شراء اسلحة مشكوك بجدواها في الحرب 
الحقيقية.
الهجوم على السعودية عزز توجهاً في اساليب الحرب مفاده أن الاسلحة منخفضة التكاليف سهلة المنال هي التي تأتي في الصدارة. فلو نظرنا الى سجل العبوات الناسفة التي تزرع على جوانب الطرقات لوجدنا أنها عادة ما تصنع بسهولة من سماد متوفر يسهل الحصول عليه ثم يتم تفجيرها بسلك تحكم بعد زرعها على جانب الطريق. هذا النوع من العبوات كانت له تأثيرات مدمّرة عندما استخدمه الجيش الجمهوري الايرلندي في مناطق جنوب آرماغ أجبرت الجيش البريطاني على التخلي عن استخدام الطرقات الأرضية والتحول الى الطائرات المروحية.
استخدمت العبوات الناسفة المزروعة على جوانب الطرقات أيضاً بأعداد ضخمة في العراق وافغانستان وكانت لها آثار عظيمة ضد قوات التحالف الذي قادته الولايات المتحدة. عندئذ وجّه الجيش الاميركي موارد هائلة من اجل التوصل الى ما يبطل مفعول هذه الوسيلة الفتاكة، ومن بين ذلك 40 مليار دولار أنفقت في إنتاج 2700 مركبة مصفحة من نوع خاص أطلق عليها اسم “أم آر أي بي”. بيد أن دراسة اجراها الجيش في وقت لاحق كشفت عن أنّ اعداد الجنود الأميركيين الذين قُتِلوا او جُرِحوا عند تعرضهم للهجوم وهم يستقلون مركبات “أم آر أي بي” بقي نفسَه بالضبط كما كان عند استخدام المركبات القديمة.
لا أتصور أنّ القيادات العسكرية العليا الأميركية والبريطانية والسعودية سوف تتقبل منطقاً يقول إنّهم يملكون تحت امرتهم قوات باهظة الثمن ومتقدمة تكنولوجياً ولكنها في التطبيق العملي قد أصبحت من الماضي. معنى هذا أنهم سيبقون على تمسكهم بأسلحة تمتص الموارد بشراهة ولكنها من الناحية العملية قد عفا عليها الزمن. 
اليابانيون من جانبهم عمدوا مباشرة، بعد أن أثبتوا بأنفسهم مدى هشاشة السفن الحربية من خلال هجوم بيرل هاربور، إلى إدخال أكبر سفينة حربية في العالم، واسمها ياماتو، في الخدمة الفعلية. هذه السفينة لم تطلق مدافعها سوى مرة واحدة قبل أنْ يغرقها طوربيد اطلقته طائرة أميركية وقاذفات قنابل انطلقت من حاملات
 طائرات. 
 
باتريك كوكبرن/عن صحيفة الاندبندنت