للّهجة العراقية سحرٌ خلّاب لا يدرك عمقه إلا من يغادر العراق فتتوق روحه الى “شلونك أغاتي” و”شكو ماكو” و”فدوه لگلبك” تخرج من ثغر عراقي يسأل عن أحواله.. يشاطره همّه اليومي بدفء الحسجة العراقية اللذيذة..
في الضاحية الجنوبية من بيروت تجد نفسك في أيام عاشوراء إزاء شلال دافئ يثلج الصدر من أفانين اللهجة العراقية أينما ذهبت، فالردّات الحسينية المؤثرة تدور في السيارات والمحال والحوانيت والمطاعم والبيوت في تناغم جميل يتماهى مع عشق أهل الضاحية لسيد الشهداء الحسين وملحمته العاشورائية الخالدة.. باسم الكربلائي و(رواديد) حسينيون عراقيون آخرون لعبوا بامتياز دور سفراء الشجن العراقي الرائع عبر اصواتهم الشجيّة التي انطلقت في رحاب الطفوف لترسم بعذوبة خارطة متناهية الجمال واللوعة في آن واحد.
هذا الأمر جعلني أقف بإجلال إزاء الشعر الشعبي العراقي الذي يتسم بنكهة خاصة لا يجرؤ على الاقتراب من تخومها أي شعر عامي في البلدان الأخرى. فمن منا لا يتذكر النماذج البهية من الشعر الشعبي العراقي التي تشكل ثروة ادبية كبيرة لا يمكن لأحد ان ينكر وجودها وكينونتها المتوهجة بكل ما تمور به من ألوان إبداعية.
فليت شعري هل نستطيع ان نتجاهل النماذج الشعرية الرائعة التي ابدعها اساطين الشعر الشعبي والتي تنطوي على الكثير من مقاربات الخيال والصورة الشعرية الخصبة والرمزية اللافتة والتوظيف الساحر لمورثات الميثولوجيا بشكل ذكي وجميل وغيرها من فضاءات الألق الشعري الضاج بالحيوية .. لا بالتأكيد.. فلو أردنا استعراض النماذج التي تؤشر تلك الحالات المضيئة مثل شعر ابو معيشي والحاج زاير الدويج ومظفر النواب وغيرها لطال بنا المقام. ولكن يمكن الإشارة الى مقطع بسيط مما كتبه الشاعر الحسيني الكبير الراحل كاظم منظور من قصيدته ذائعة الصيت “جابر يجابر ما دريت بكربلا شصار” والتي أداها بصوته المتفرد اسطورة المنبر الحسيني الراحل حمزة الصغير.. يقول منظور في مطلع رائعته :
جـابـر يجابر ما دريت بكربله شصار…. من شبوا النار والـحـرم شـاطـت لـلـمـعـارة تـريـد أهاليها
مـا تـسـاعـدنـي يـجـابر على مصاب اللي دهاني
وتـنـظـر لـسـهم الشماته شلون صك عيني وعماني
وانـظـر الگوس الـمگدر چم سـهـم مـاضي رماني
وآنـه عـلـى فراش الولم….
كل ساعه وانصاب بسهم
الله مـن صـواب الـحـرم…..
مـثـل سبيتها سباني
جـابـر يجابر والدهر ما انصف وجار….
من شبوا النار
بالله عليكم اي شجن مترع بمغناطيسية عجيبة هذا الذي يتسرب من غير استئذان الى افئدتنا وينثر فيها السكينة والشجن معا.. لا اريد الاستغراق اكثر واعود الى الضاحية الجنوبية من بيروت.. إلى هذه المدينة الجميلة وأهلها الطيبين الحسينيين.. اذ صادف ان اشتريت فاكهة من احد باعة الخضار في أحد شوارعها العامرة وكان يستمع بتلذذ الى ردة باسم الكربلائي
“هذا الغريب منين / وين أهله راحوا وين” ..
بادرني هذا البائع الخلوق بالسؤال على استحياء: الأخ من وين: فأجبته مبتسماً: إني لأعجب ممن يستمع الى ردة باسم الكربلائي “هذا الغريب منين / وين اهله راحوا وين” ! ثم يسأل احد “الغرباء” العراقيين, هذا الغريب منين؟!
ودعته معتذراً وأنا استمع الى الكربلائي وهو يرفع عقيرته منشداً عن غربة موسى الكاظم العراقية الممتدة منذ اكثرمن ألف وأربعمئة جرح ونيف, مرددا :
“ دمعته ولهجة دعاءه وبقلب خاشع صفاته.. للفرج يحسب ليالي وبالفرج يدري مماته ..
طامورة الأشرار..
ظلمتها ليل نهار.. ظلمتها ليل نهار..
هذا الغريب امنين.. وين أهله راحوا وين..
وين أهله راحوا وين” !!
الغربة كما يبدو قدر يلازم العراقيين منذ الأزمنة القديمة وطبعت بحزنها لهجتهم التي طالما نزفت شجناً عراقياً خالصاً.