الانتماء البدائي للنص
ثقافة
2019/09/27
+A
-A
علي سلمان ساجت
قبل ان تصبح اللغة صوتا مهموسا ،كانت مجموعة من الاشارات تدل على غاية المخاطب معلنا عنه او مسكوتا ،لكنه مفصوح عنه بدلالة الاشتراك بين رغبة الوضوح وغموض الدلالة ،اي ان حافز الاعلان ظاهر بانتكاس الرؤية فينعدم الصوت وتنمو أداة اخرى لها سلوك اخر في توضيح المعنى ,هنا يتوحد الصوت مع الاشارة في توليد انماط تتضح لاحقا لكنها تنتكس كثيرا في استيراد معاني مترابطة وموحدة مما يجعلها غير قادرة على ابداع او انشاء منظومة متطورة في الوعي نفسه , الاشارة كانت هي الوليد العقيم الكسيح لكنه البديل الثوري لأنشطة الوعي ، والدماغ بصفته ركيزة للوعي أخذ يتسع وينهض ويتصاعد وينمو ،أحد أهم اوعيته بدأ يتحد مع عامل القصد في بلورة صورة قادمة في انتماء اخر للمفهوم ، بين حتمية المعنى ومعلوم الارادة ،هذا كله يحيلنا الى ذاكرة الخطاب الشفاهي التوصيلي في سعي الانسان الاول لبناء سعادة ،التي باتت الهم الاخير للإنسان وكل الذي رأيناه لاحقا جهدا بائســا لوضع جديد من السعادات المحتملة ،وكانت اولها طبعا ( اللغة) ،التعبير عن إحساس الأنا وشغف الذات نحو الصيرورة والإحالات والرغائب , شهوة التملك والحضور, سطوة وحظوة او هي بيان الارادة ،لعل الصورة هي نفسها واحدة قادمة من هناك او قد اتت من هنا ..انها ذاتها تشكلت منذ عصور ومازالت عالقة ،كيف اراك نفسها ان تراني الامر مختلف في كيفية الوضوح ان الشمس واحدة ولكنها قد تتعدد لدى الاشخاص فاقدي الظل ’ لكن العتمة متوحدة ومتفوقة لديهم ،هذه اخذت تتضح في ما بعد من الزمن الطويل عندما اخذ الانسان يلم اشياءه وشتاته ..عندما وجد اصابعه تتحرك بلا معنى وان اعضاءه الاخرى خذلته هي الاخرى ،وجد ألا مناص من الاحتكام الى الضرورة التي اهتدى اليها بعناء بالغ .. تارة بالصدفة’ وتارة الحاجة الضاغطة ,وكل هذه لاتشكل عائقا في معاينة حفريات التاريخ ،مجرد معاينة متأنية تستجلي الصورة وتنكشف كل ابعادها بمعنى آخر إن الانسان لم يكن ولن يكون صانع اقداره وحتى تاريخه فهو مصنوع ومرتب رغما عنه وأحدى هذه الكيفيات هي اللغة’ ولعل الحافز الاهم في نشوء (اللغة) طبعا ليس بمفهومها المعروف ’ وبناء أنظمتها وتوابعها مرده الى الكيفية التي اخذ الانسان بها سلوكه نحو الاشياء ليتفوق عليها ’ نزوعا الى الافصاح عن غرائزه وطبائعه ومن ثم فإن البحث عن أي صفة من الصفات التي اتصف بها الانسان ينسحب بدوره عن ذات الانسان نفسه واللغة هي احدى الصفات القومية للإنسان بل إنها تقوم أحيانا مقام بعض السلوكيات والعوامل الوراثية ’ كصفة الدم او اللون أو الهيئة ومثلما علينا دراسة هذه الصفات الوراثية فإنه علينا هذا العبء نفسه من الدراسة حول اللغة .. وبذلك تعدو دراستنا حول الانسان وطرق معيشته وسلوكه هي في جانب منها دراسة حول اللغة نفسها ومن هنا فقد أخذ علم ( الانثربولوجيا) على عاتقه من ضمن مهامه الكبرى ( اللغة) كصيرورة فاعله في إدامة قنواته .
يذهب بعض اللغويين الى أن اللغة قد تطورت في الحقيقة من اللالغة.. (1) مما يؤكد حقيقة ان اللغة نظام اشاري أكثر منه نظام صوتي وأن الوظائف التي تقوم بإنتاج الاصوات اللغوية وإدراكها ( الرئتان والوتران الصوتيان واللسان ومجموع وظائف الحنجرة) تؤدي وظائف بيولوجية اكثر اتساقا من وظيفة انتاج الإشارات المنطوقة . كما يؤكد جون ليونز(2) ان الانسان بقدر مايعي كونه موجودا في مكان ما وزمان معين فإنه كان يتحين على غير وعي منه توافقا بين وجوده وقدرته على الوجود ومن ثم تصعيد وجوده هذا نحو رغباته او جموحه .
اذن كانت الاشارة المصحوبة ببعض الاصوات غير المنتظمة والمبعثرة في احيان كثيرة هي قدرته على التوصيل والاستدلال . فحياته جملة متراصة من الفعل اليومي تفصح عن رغباته . فلم تكن ثمة عادات مألوفة يرجع اليها او وصايا ..فالأمور كلها غائبة ’ أشعاره وفنونه ’ افراحه واتراحه ’ اتعابه وأمراضه كان يجترها من سلوته اليومية ولم يجد من هو خليق بالتأسي والاقتداء يفتقد الى بطل يجمعه وهذه الاناشيد والتراتيل والرقصات وحركات الجسد لم تستلهم اصولها او تستوح طابعها من احالة او رسوخ مألوف لديه فصولاته وغنائمه وحتى جوعه وشبعه حافزه على الانفعال مما يضفي طابعا سحريا مغرقا في التضبيب والتغريب وعدم الفرز.وبتعبير أدق لم تكن هناك ابداعات فردية لانه لم تكن ثمة فنون او آداب او اجناس ’فكل اجناس الفكر مختلطة ببعضها “الانشودة” هي مزيج من الرقصات والاغاني والصلوات متداخلة ببعضها لتشكل في اخر الامر حياته وعليه يمكننا بيسر ان نستدل على انه لم يكن عنده جنس ادبي مخصوص له طابعه وبرنامجه وهنا يسعنا ايضا بلا تعسف ان نضع (اللغة) في صورة ذلك الخطاب البدائي الاشاري التهويمي المائع في تلك الفكرة البدائية المحتملة كل اوجه التحريف ، اذا كانت الجدوى في ارساء ذلك الخطاب الصوتي وسيلة تضامنية لم تطمح الى بعد ذاتوي او فكرة فردانية شخصانية منعزلة عن فكرة الكل ومتوحدة في الاجزاء منبثقة من جدواها العام وصيرورتها الحتمية مستقلة عن صفتها الموحية الدالة ومبعدة عن مدلولها مقترنة به بحكم العادة ومنفصلة عنه بحكم الديمومة .
كانت الاصوات تنبثق مندلقة في هوس وصياغة مرعبة من دون ان يجد لها تبريرا سوى حاجته لكنه لم يمفصل او يفكك حاجته تلك . بصورة ادق نحن البشر لم يكن بادئ ذي بدء بحكم الناموس الطبيعي نؤشر لهاجس الانتماء ’ الفرح له طقس والحزن وكل اشكال الارهاصات لكنها لم تتمفصل في جنس او حقل ،وشيئا بعد شيء او بعد حين من التداعيات المؤلمة اتسعت فكرة الاشارة الى صوت والصوت نفسه لم يتمخض بيسر حتى ينتج رمزا موحيا او معنى دالا .
فاللغة هذا المزيج الصوتي المقترن بدوال متسعة وفيوضات وحواس ’ اورام الانسان اخيرا بدأت تندمل وتجترج جروحا قادمة , اللغة ولادة عسيرة ومخاض لذلك السكون الابدي حتى انه لم نستطع حينذاك ان نؤشر او نؤسس لفكرة البطل لان الاشياء لم تنبجس بوحي من الذات المفترضة (للأنا) لكنها بعامل الزمن اخذت تتفوق على الجموع لتتوحد بعد حين طويل مع كينونتها حتى رأينا ان الاصل وهي ( الاشارة) لم تعد لها مركزية في لوائح طينية او رسوم لاحقا لانها اخذت تنحسر وبهذا الخطاب الشفاهي يكون الانسان قد انتقل الى انسنة جيناته وتطويع ذاته لتكون وسيلته في المبادلات النفعية والتوصيلية وشيئا فشيئا أخذت هذه الاصوات تتمحور على نحو أرحب في أفق ملبد بنشأته الاولى وتكوينه الاول بما يجعل الامور لديه سهلة الانقياد حتى تبلورت اخيرا جملة من الطقوس تشكل مجمل وعيه ومفاهيمه ’ ولم يعرف سوى تلك الخصائص التي اصبحت وسيلته في التعبير كلما داهمته الخطوب او ألمت به العاديات وحتى لما أصبحت (سيطرة الانسان على الفنون الحضارية الكبرى كالخزافة, والحياكة, والزراعة وتدجين الحيوانات)3, الا أنه لم يأخذ هذه الأمور على شكل تصنيفات رغم تصنيفاتها الذاتية المقررة في ذاتها.
فالخزافة كانت تشكل في ذهنه صنفا مختلفا تمام الاختلاف عن تدجين الحيوانات ولكنه لم يأخذ هذه الافتراضات الحياتية على الفيوضات الذهنية فيحسب مثلا انه ينبغي عليه ان يقيم تصنيفا بين الرقص كفن وبين النشيد المصاحب له كفن آخر منعزل عنه ومتجانس فيه في آن معا كما هو الشأن الآن . وعلى هذا النحو فإنني لم أجد بأسا كي أقرن ذلك النشيد (البدائي) المتداخل بالرقص والترتيل والتضرع والهجود والغناء بهذا النص (المكتوب) الآن ما الذي يمنعني مثلا من مشاهدة ذلك الموكب الضاج ..
بالذنب والصلاة والخوف والقوة..في نص من نصوص ابو تمام وشوقي وادونيس والبياتي وخزعل الماجدي وفراس الصكر إنها حالة من الاختلاء والمباركة تربطنا بانتمائنا الأول .
كان الأولون مأسورين بالرغبة والوحشة والمجهول ونحن ندور مع الالكترون والصفر المطلق وعابرات القارات وهيفاء وهبي ومارلين مونرو, إنها ذاتها الأشياء تتكرر ،تنتمي الى جذرها الأول ،أنه نسغ واحد يصعد فينا ـ يكررناـ يجمعنا كرة أخرى ،يفشــي أسرارنا فلم يعد اذا أمامنا سوى ان نرتل ونصلي ،نبكي ونرقص ،نستفهم ولا نسأل ،نخلط ولانصنف , ليصبح في النهاية هذا ( النص) ذلك النشيد وتلك الرقصة .