أحمد الشطري
شهدت الرواية التاريخية على مدى تاريخها تغيرات متعددة في مفهومها وتقنياتها السردية سواء في الأدب الغربي او في أدبنا العربي بين من يرى “انها سرد قصصي يدور حول حوادث تاريخية... بأشخاص حقيقيين او خياليين او بهما معا” معجم المصطلحات العربية في اللغة والادب ص 184، وبين من يرى انها” عمل فني يتخذ من التاريخ مادة له، ولكنها لا تنقل التاريخ بحرفيته، بقدر ما تصور رؤية الفنان له وتوظيفه لهذه الرؤية” بناء الرواية في الادب المصري الحديث- عبد الحميد القط ص33، الى غير ذلك من المفاهيم والآراء.
نظرية الرواية
ولعل رواية (مقامات اسماعيل الذبيح) لعبد الخالق الركابي الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت عام 2016، تمثل ملتقى تجتمع فيه اغلب هذه الآراء، فهي مرة تلتزم بوثائقية الحدث التاريخي ومرة اخرى توظف فضاءات الحدث التاريخي لبناء الفعل السردي المتخيل، وهي ايضا لا تبتعد كثيرا عن الشكل الملحمي اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار تلك الطروحات التي اطلقها هيغل ومن بعده جورج لوكاتش الذي يرى “ان نظرية الرواية شكلت مرحلة تاريخية من مراحل النظرية العامة للفن الملحمي الكبير” نظرية الرواية وتطورها. فعبر اكثر من ستمئة صفحة تنقل بنا الروائي فيها عبر احداث ومتغيرات مختلفة شهدتها المنطقة طوال قرن من الزمن.
يستخدم الركابي اسم (اسماعيل الذبيح) بما يحمله من دلالة رمزية كمتعالية نصية اولى لروايته ثم يعزز دلالة هذه المتعالية بالآية القرآنية التي تتحدث عن قصة رؤيا النبي ابراهيم الخليل التي أمر من خلالها بذبح ابنه اسماعيل، ويضيف تعزيزا آخر بإطلاق اسم (اسماعيل الذبيح) على الشخصية التي تجري من خلالها احداث الرواية، وهو قناع اراد من خلاله الروائي ان يضيف ما يشبه البعد الاسطوري لتلك الشخصية التي اتسمت بالشجاعة والتضحية والمواقف البطولية سواء في العراق او في فلسطين، وسواء باشتراكه المباشر في عملية الدفاع عن الوطن، او بما قدمته عائلته من تضحيات.
ومن خلال شخصية اسماعيل الذبيح يتنقل بنا الروائي عبد الخالق الركابي عبر تلك المتغيرات في سرد لا يخلو من الوصف البيوغرافي، تمثل بغداد مركزا ومحورا لتفرعاته باتجاهات تمتد الى مدن عراقية وعربية، ويشكل الخيط الرابط بين بغداد والقدس الفضاء الاقوى حضورا من غيره من المدن العربية.
واذا كان عبد الخالق الركابي قد استند في بعض وقائع الاحداث التاريخية والجغرافية على مرجعية وثائقية فقد كانت مرجعيته في بعض الاحداث المعاصرة تنطلق من معايشته للحدث ومن ثم فهي لا تخلو من رؤية تاريخانية لتلك الاحداث التي حاول ان يلتزم فيها الجانب المحايد قدر المستطاع.
تعتمد رواية (مقامات اسماعيل الذبيح) نوعا ما على الاسلوب البوليفوني في سرد احداثها فهي وان كان مصدر الحكي فيها هو الراوي (الانا) الا ان ذلك الراوي غالبا ما يكون متلقيا للحكي من خلال عملية استنطاق لبعض شخصيات الرواية، او استنطاق المذكرات والوثائق التي ينقل عنها الاحداث، ومن ثم فان هناك ثمة تعددية في الاصوات، وان كانت تلك التعددية تتناول احداثا مختلفة، كما ان زمن الخطاب السردي للرواية لا يعتمد التسلسل الفعلي للأحداث، وانما يتنقل بين زمني الحاضر والماضي وفقا لزمنية تلقي الراوي للحكي، وهو اسلوب ربما يسهم في تجنيب القارئ التراتبية المملة في عملية التلقي، ومن ثم يمكن ان يشكل ذلك عنصرا جماليا وتشويقيا من خلال مساهمة المتلقي بعملية ربط مجريات الاحداث بخيوطها الزمنية الواقعية.
المكانية والزمانية
وقد أسهمت تنقلات اسماعيل الذبيح المكانية والزمانية في تقديم الوصف التاريخي والجغرافي وتحولاتهما السياسية والاجتماعية والحضارية للمنطقة المحصورة بين بلاد الشام والعراق والحجاز بشكل رئيس على مدى قرن من الزمن، بنسب متفاوتة، وكان ذلك الوصف يجري من خلال حدث درامي سواء كان عن طريق تلقي الحكي من الرواة الفرعيين عبر الراوي الرئيس او من خلال اشتراك ذلك الراوي في الحدث، وكمثال على ذلك، ما نراه في الجانب المتعلق بحركة الجهاد التي تطوع فيها العراقيون بمختلف اطيافهم ضد الغزو البريطاني عام 1917 والتي كان الوصف فيها يجري عبر الراوي الفرعي باعتبار ان الراوي الرئيس لم يكن شاهدا على تلك الاحداث، بينما كان الوصف في الحرب بين ايران والعراق وما تلاها يتم الوصف فيه عن طريق الراوي الرئيس باعتباره شاهدا حيا على هذه الوقائع. بيد ان عملية الوصف في الحوادث المتأخرة لحروب الخليج الثلاث لا تتعدى كونها وصفا اخباريا ظاهريا من دون ان يكون للاشتراك الفعلي اثر فيه كما هو الشأن في الحروب ضد الانكليز وغيرها، كما لم يتضمن اشارة معمقة للآثار المدمرة التي ترتبت عنهما باستثناء التأثيرات البيئية للأسلحة المنضبة باليورانيوم. وربما ذلك متأت من احساس الكاتب بان تلك الاثار هي بحكم المعلوم للقارئ، او انها ستثقل الفعل الدرامي بتفاصيل تخرجه عن اطاره التشويقي.
مثلت الحبكة الدرامية للرواية تنقلات متعددة، استعرضت حياة شخوص الرواية بمختلف اعمارهم وهو ما منح الروائي مساحة واسعة لوصف أنثروبولوجي نوعا ما للمنطقة وخاصة بغداد وبعض مدن العراق في بدايات القرن المنصرم أسهمت في اضفاء بعد جمالي واغرائي مضاف الى ما تميز به الترابط المحكم في البناء السردي للرواية من جماليات اخرى.
وبالرغم من القصدية المضمرة في عملية تصفح التاريخ واستعراضه، الا ان القدرة الفائقة للروائي عبد الخالق الركابي في جعل التضمين الوثائقي متواشجا مع الحدث الدرامي بشكل يصعب التمييز فيه بين الفعل القصدي وبين الضرورة الموجبة لذلك التضمين في تنامي الحدث الدرامي، اذ ان عملية السرد جاءت منسابة وفق نسقية محكمة ومترابطة. حتى يكاد ان يخيل للقارئ ومن خلال توظيف الاسماء والاماكن الحقيقية ان الحدث الروائي هو حدث حقيقي وليس متخيلا، وهي احدى سمات الرواية التاريخية التي تحتاج لمقدرة عالية وتمكن لابد من توفرهما لدى السارد للاقتراب من افق الاقناع لدى
القارئ.
لقد حملت رواية مقامات اسماعيل الذبيح بالإضافة الى الحكاية الدرامية المكتنزة بالجمال السردي كمّاً كبيرا من المعلوماتية المختلفة الافاق وان كانت المعلومة التاريخية والاجتماعية صاحبة الحضور الأقوى فيها. كما حفلت بالكثير من الدلالات الرمزية التي تحتاج الى مبحث خاص يكشف الابعاد التأويلية لها، سواء ما يتعلق بالاسم الافتراضي للشخصية الرئيسة او قاعدة انطلاق الروي وخاتمته.
ان قراءة مبتسرة لا يمكن لها الا ان تقدم مفاتيح واشارات الى الفضاءات القرائية الرحبة التي تستلزم جهدا ومساحة قادرة على ان تستوعب ما تستحقه هذه الرواية من اشتغالات نقدية ربما تتمكن من اضاءة بعض ما فيها من ثراء ابداعي وجمالي آمل ان نوفق له في قادم الايام.