ديفد إغناشيوس
ترجمة/ انيس الصفار
تملي عليك القاعدة الحكيمة ألا تبدأ معركة إلا اذا كنت على استعداد للمضي بها حتى النهاية، ولكن ادارة ترامب وحلفاءه العرب عالقون الان كما يبدو في شرك معضلة من هذا النوع مع إيران التي اثبتت أنها خصم أصلب معدناً مما كانت واشنطن تتوقع.
هجوم إيران المزعوم يوم السبت 14 أيلول على منشآت النفط السعودية باغت المحللين الأميركيين، لأنها كانت ضربة كبرى وظفت لها قوة مشتركة مؤلفة من 25 قذيفة بالستية وطائرة مسيّرة إيرانية، كما يقول المسؤولون السعوديون، على موارد يفترض أنها تحظى بحماية الولايات المتحدة وأسلحة الدفاع السعودية.
الرسالة الأولى التي تلقاها المسؤولون الأميركيون هي أن الإيرانيين أشد عناداً وأعلى استعداداً لركوب المجازفات مما كان يتصوره المحللون الأميركيون بكثير. الرسالة الثانية هي أن الإيرانيين كانوا على حق حين قدروا أن الرئيس ترامب سينكص متقهقراً عن الحرب، وهم اليوم يستغلون ضعفه المتصور هذا. فكلما أكثر ترامب من الكلام عن رغبته في التوصل الى حل دبلوماسي بدت إيران أشد عزماً على اتخاذ موقف الهجوم، وهذه دينامية خطرة.
لدى الولايات المتحدة في منطقة الخليج قوة عسكرية فائقة تكفي لمحق إيران مرات متوالية لا مرة واحدة، ولكن الحقيقة المرّة هي أن هذه القوة لم تنجح في ردع إيران، وهذا وضع ستراتيجي يثير جزع المخططين الستراتيجيين لأنه يمكن أن يجرّ أمة الى خوض صراع لمجرد اثبات مصداقيتها وأنها تعني ما تقول على أمل أن يجنبها ذلك الدخول في معركة اكبر.
يصف المسؤولون الأميركيون انكار إيران مسؤوليتها عن ضرب السعودية بأنه كذب ووقاحة. يضيف هؤلاء المسؤولون أن المعلومات الاستخبارية التي عندهم لا تترك مجالاً للشك في أن الهجمات انطلقت من داخل إيران، ولو أنهم يتحفظون في الكشف علناً عن حجم المعلومات المتجمعة لديهم بخصوص العمليات الإيرانية. في يوم الاربعاء الماضي أعلن العقيد تركي المالكي، المتحدث باسم الجيش السعودي، بكل صراحة اثناء عرضه قطعاً وحطاماً تخلفت من الذخائر الايرانية: "لقد جاء الهجوم من جهة الشمال وهو بلا شك مدعوم من إيران."
ضعف القدرات الدفاعية
الهجوم على مصفاة النفط السعودية في بقيق كان حدثاً مؤثراً في تغيير قواعد اللعبة بالنسبة لاسواق النفط، لأنه فضح هشاشة البنى التحتية المتعلقة بالطاقة، لا في السعودية وحدها بل لدى جيرانها الخليجيين ايضاً: مثل الكويت والبحرين وقطر والامارات العربية المتحدة. هذه الدول انفقت اموالاً هائلة على شراء المنظومات العسكرية الأميركية، ثم تبين في النهاية أنها تركتهم ضعفاء مكشوفين.
على المحللين في مجال الطاقة الآن أن يتوقعوا تكرار مثل هذه الهجمات مجدداً على أهداف عديدة، ما لم تشن الولايات المتحدة ضربات انتقامية (ستشكل بدورها مخاطر كبيرة على حركة شحن الطاقة في الخليج). لو حدث هذا فعلاً فقد يواصل ضغط اسعار النفط صعوده لأشهر وربما لسنوات، وهذه ليست بالرسالة التي يريد ترامب أن يوصلها وهو يستعد لخوض سنة انتخابية.
هذا الوضع بالنسبة لترامب يمثل إصابة ألحقها هو بنفسه، إذ من المهم أن نتذكر دائماً، وكلما احتدمت أجواء المواجهة، أن هذا الوضع لم تكن له ضرورة على الاطلاق.
لقد اختار ترامب التخلي عن اتفاقية 2015 النووية مع إيران خلافاً للنصائح التي قدمها له معظم حلفاؤه وكثير من كبار مساعديه، ورغم التزام إيران بالصفقة. كانت غايته كما يبدو أن يبرم صفقة أفضل يتفوق بها على تلك التي ارتضاها الرئيس "باراك أوباما"، كما يبدو أنه كان مقتنعاً تماماً بأنه إذا ما سلط "اقصى درجات الضغط" عبر العقوبات الاقتصادية فإن إيران سوف ترضخ وتجلس للمفاوضة.
بدلاً من ذلك باشرت إيران منذ شهر أيار بشن حملة متصاعدة ضد اهداف تخص نفط السعودية والامارات العربية، ازاء ذلك تبنت الولايات المتحدة رداً منخفض النغمة بمباركة من ترامب. حتى بعد أن اسقطت إيران طائرة استطلاع أميركية بلا طيار في شهر حزيران وجدنا ترامب يتخذ بنفسه قراراً بالامتناع عن الرد عسكرياً.
مبادرات مرفوضة
يشعر بعض مسؤولي الأمن القومي بالقلق من أن يؤدي هذا التحفظ الى اضعاف القدرة على الردع، ولكن ترامب يريد تجنب الحرب لعلمه بأن اي صراع واسع آخر يندلع في الشرق الأوسط سوف يكون كارثة سياسية، لاسيما حين يقع على خط الدفاع عن السعودية التي لا تحظى بالشعبية لدى كثير من اعضاء الكونغرس.
لم يتوقف ترامب عن مسعاه لاجراء محادثات مع إيران، رغم تحذيرات بعض المحللين له بأن المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، قد يواجه ذلك بالرفض. كذلك أخذ ترامب يشجع مساعي الوساطة، من جانب رئيس الوزراء الياباني "شنزو آبي" والرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"، ولكن تلك المساعي قوبلت بالازدراء هي الأخرى من جانب طهران، وكذلك اقتراح ترامب بإجراء لقاء مع الرئيس حسن روحاني في نيويورك خلال هذا الشهر.
بمواجهة إيران المعتدة بنفسها تنحو ادارة ترامب الى اتخاذ خط ناعم ولين نسبياً. في الاسبوع الماضي صرح وزير الخارجية "مايك بومبيو" بأن هجمات السبت 14 أيلول كانت "من أفعال الحرب"، ولكنه عاد في يوم الخميس التالي ليتملق وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، حين هدد الأخير بـ"حرب شاملة" في الرد على أي اجراء انتقامي، مؤكداً أن هدفه هو "تحقيق السلام والتوصل الى حلول سلمية".
المواجهة مع إيران نقطة التقاء لثلاث حقائق مؤلمة، فإيران اليوم تستطيع أن تشكل تهديداً متكامل الابعاد لخطوط شحن النفط في المنطقة، كذلك فإن أي فعل عسكري يزمع اتخاذه ضد إيران يجب أن يضم بين صفوفه ولو بعض القوات السعودية لكي يكتسب المقبولية السياسية داخل الولايات المتحدة، غير أن السعوديين والاماراتيين، بعد أن انكشف لهم مجدداً مدى ضعفهم وهشاشة موقفهم، يتحذرون من الدخول في مواجهة مكشوفة.
سلسلة الاحداث الخطيرة التي تتابعت كانت متوقعة، بل أن هناك من تنبأ بها وحذر منها. لذا على ترامب اليوم أن يحسم أمره ويتخذ القرار، هل سيخوض حرباً لا يريدها هو ولا يريدها بلده، أم يحاول التراضي مع إيران التي تسبب هو أصلاً في دفعها الى هذا الموقف العدائي. أهلاً بك في الشرق الأوسط يا سيادة
الرئيس.