محمد غازي الاخرس
.. ورولان بارت ناقد فرنسي يصعب تخيل النقد الحديث من دون وجوده. ذات يوم، احتُفي به في حلقة دراسية فقال إنَّ هناك مؤامرة صحفيَّة تقاد ضده تتمثل في رغبة الصحافة في جعله كاتباً. قال “كاتباً” وكأنه يلمح لنسق خفي يعدُّ فيه الكاتب أقلّ مرتبة من الناقد. الأمر كذلك دائماً، عند الفرنسيين وسواهم. الكاتب أقل شأناً من الناقد مثلما الناقد أقل شأناً من الشاعر عندنا. في التسعينيات، كانت الشتيمة الأقسى التي نتبادلها في ما بيننا هي: أنت لست شاعراً ولن
تكون.
بل إنَّ أحدنا إذا ما وجد في نفسه براعة في النقد مثلاً خبأها خلف صورته شاعراً قدر إمكانه. لا تراه يهتم بأي إطراء لموهبته النقديَّة قدر اهتمامه بإطراء شاعريته. الأمر مع الصحافة مماثل، ولطالما استكنف من هو ناقد أو شاعر أو قاص من كونه كاتباً أو صحفياً.
تراه يُسأل عن علاقته بالصحافة فيقول بحياء إنه مجرد عمل يرتزق منه، وغالباً ما يضفي فلسفة تبرر هذا “الاحتقار” كالزعم أنه شيء عابر ولا يدوم
طويلاً.
بالعودة لرولان بارت، فإنَّ حديثه عن المؤامرة التي تقودها الصحافة ضده لجعله كاتباً كان مجرد مزاح. فحين سُئل عن عبارته تلك لاحقاً أجاب أنها طرفة وقال: “أحبّ كثيراً أنْ أكون كاتباً، ولطالما رغبت أنْ أكون واحداً من الكتّاب دون أنْ يتضمن هذا الحب أيّ حكم قيمة، فالكتابة بالنسبة لي ليست عملاً يصمم لأغراض الترقية الجامعيَّة، إنها عمل ومهنة”. ثم يبين جذلاً بعض الشيء أنَّ صورته الاجتماعيَّة الضئيلة الحجم حسب تعبيره قد بدأت، في الفترة حيث سأل، بالتغير من صورة الناقد إلى صورة الكاتب. قال ذلك وفي طيات كلامه مفردة “استمتاع” التي وصف بها شعوره بتغير صورته لتكون صورة
كاتب.
نعم، الكتابة هي الكتابة، جنسٌ من ممارسة الوجود يمكن أنْ يتمظهر بالنقد ويمكن أن يتجسد بالمقالة. هي الحالتين هي كتابة، نقش للذات على صفحة الزمن، رسمٌ للأفكار في دفتر الوجود. كل شيء يزول وتبقى هي، الكتابة، تفكر وتتفكر في الآخرين سواء كانت نقداً أكاديمياً أو كتابة مقاليَّة. ما الفرق يا ترى بين أعظم الدراسات التي خلفها لنا الأكاديميون والمقالات التي كتبوها؟ ومن ذا الذي يستطيع إقناعي أنَّ تحقيقاً صحفياً ممتعاً كُتب في جريدة “الحرية” عام 1958 يمكن أن يكون مملاً لو قرأته عام
2018؟
الكتابة هي الكتابة، مؤامرة على الفناء تقوم بها الذات، وغالباً تنجح فيها وهو ما جرى مع رولان بارت؛ سحق جسده تحت عجلات السيارة المسرعة بباريس، لكن مقالاته ونقده بقي حيّاً يفكر بنا ولنا. يحزننا حيناً ويصدمنا تارة، وإنْ شاء مازحنا فجعلنا نبتسم من بعد عقود على المفارقة ويا عجبي!