البصرة/ صفاء ذياب
منذ عمله الأكاديمي المميز (مفاهيم الشعريَّة)، لم يتوقّف الدكتور حسن ناظم عن البحث في الشعريّة العراقيّة، وسعيه للوقوف على أهم ما يميزها، والمفاصل التي أسست لتحوّلات كبيرة فيها. وهو ما أكّده في كتابه الجديد (شعريَّة العابث) الصادر مؤخراً عن دار التنوير في بيروت، ليجمع فيه دراسات ومقالات تجلّي مسائلَ في سيرةِ الشعريّةِ العراقيّةِ بدءاً من شاعرِ العربِ الأكبر محمد مهدي الجواهري (1899-1997) إلى بعضِ الروّاد (محمود البريكان)، وبعضِ الشعراءِ من العقودِ اللاحقةِ (سركون بولص وحسب الشيخ جعفر وغيرهما)، وصولاً إلى شعراءِ الألفية.
قدّم ناظم في كتابه هذا آراءً عدّة عن دراسة الشعر ومناهجه، موضحاً أن بعض المدارس النقدية آثرت النص بعيداً عن منتجه، وطبيعته الفنية، لكنه يرى، المسألة تتعلقُ بتوجّهِ الناقدِ أو القارئ في فهمِ القصيدة.
بعضُهم يسعى إلى فهمِ المعنى الذي أراده المؤلفُ، ما يسمى بـ “قصد المؤلف”، وبعضُهم لا يرى ضرورة في ملاحقة قصدِ المؤلفِ، فالنصُّ مكتفٍ بذاتِهِ، والمعنى موجود في اللغة التي لا تحتاج إلى مرجع لتستخرج دلالتها. فالبحث عن معنى المؤلف تقييد لعالم النصّ المفتوح وأبعاده وممكناته.
لكن فتح آفاق النصّ على غير قصد المؤلف يوقعنا في فوضى تعدّد المعاني أيضاً. وبين هذه وتلك ثمة جدل طويل.
وما أودّ أن أبيّنه هنا أنه حتى النصّ الحديث يصبح مستحيل الفهم ما لم تضعه في سياقِهِ التاريخيّ والاجتماعيّ، ما لم تضعه في ظروفه المتنوعة، وبودّي أن أحيل على تجربة شخصية في فهم نصّ شعري أجنبي لم يكن ممكناً لولا توفّر سياقه
وظروفه.
ويشير ناظم في مقدمته إلى أن شعراء الحداثة بالعراق استندوا، في حقبةِ حربي الخليج الأولى والثانية، إلى قصيدة النثر العربية بعامة، والأدونيسية بخاصة، مرجعاً تأسيسياً لقصيدة حديثة بالعراق. وانضوى جدلهم تحت خيمة ذلك الجدل الضخم الدائر في الأوساط الثقافية العربية عن النصّ، والمعنى، والمواضعات الشعرية، وتأثير قصيدة النثر الأوروبية، وشعرية الشعر، وما إلى ذلك.
وفي حالة الأشعار التي كُتبت إبان الحربين، كانت المعضلة تتركز في بُعْدِ المعنى، وكان الجدل قد أفضى إلى افتراضات متصارعة ومتنافرة. مبيّناً أن الأنا في نصوصِ الحداثةِ تمتاز بأنّها بلا ذاكرةٍ ولا
ذكرى.
فهي لا تتحدثُ عن وقائعَ، ولا عن “فردوس مفقود”، ولا عن أمكنةٍ أو أزمنةٍ. إنّها أنا معلقة خارج المكان، وخارج الزمان. هي أنا بلا بدءٍ ولا منتهى. أنا تنطلقُ من فراغٍ ولا تنوءُ بثقلِ ماضٍ معين، ولا ذاكرة لها لتستدعيها أو حتى لتجترّها.
وفي بحثه لفهم نصوص الحداثة الشعريّة في العراق، تبنّى ناظم معنى “التلفيق”؛ ويقصد بملفِّقي النصوص الشعراء الذين يستجيبون بلا تفكير لمواضعات القصيدة الحداثيّة، وينفّذون بطاعة عمياء متطلباتِها التي يعرفونها عبر الآخرين من دون أن يشعروا بالحاجة إلى اختبارها بأنفسهم، ومن دون أن يتيحوا لخبراتهم أن تختمر بذاتها، بل هم يسارعون إلى تخميرها بخميرة جاهزة.
وبذا يكون شعراء الحداثة من هذا النمط كملفّقي النصوص الكلاسيكية؛ أي الشعراء الذين يكتبون قصائد عمودية مستجيبين لضغط قواعدها، ومنفِّذين آلياتِها بلا تفكير أو اختبار. وها هنا يكمن القاسم المشترك الخفيّ، والتشابه الذي يدقّ بين بعض قصائد النثر وبعض قصائد العمود. فكلا نوعي النصوص التلفيقية يحلّق في فضاء المواضعات من دون أساس داعم في أرض الواقع.
إنّها تلفيقيّة لأنّها تستند إلى مواضعات الشعر من دون إشراك الحياة التي يحيونها في ما يكتبون، وهي تلفيقية لأنّها تضمّ خصائصَ قادمة من أغربِ سلالاتِ الآباء الشعريين وأشدّها غموضاً.
وذلك حين عجزتْ مورّثاتُ الأمّ أن تُكسبَهم بعضَ خصائصها، فبدت على غيرِ ما وصف مرةً الراويةُ والشاعرُ الشهيرُ خَلَف الأحمر بعضَ أشعار العرب القدامى بأنّها “أولادُ عَلّةٍ” (من أبٍ واحد لأمهات كُثْر)، بل صارت كأنّها تنتسب إلى بني الأخياف (من أمٍّ واحدة لآباء كُثْر).
ويكشف ناظم أن اللغة لدى ملفّقي النصوص – وخير مَنْ يمثّلها آنذاك على سبيل المثال لا الحصر بعض الموجة الشابّة التي طلعت في الثمانينيات وكان من أبرزهم محمد مظلوم ونصيف الناصري ومحمد تركي النصّار وزعيم النصّار وكاظم الفيّاض وأحمد عبد الحسين وباسم المرعبي وعبد الحميد الصائح (فيما تابعتُ وقرأت حسب، أما الآخرون فربما لا تنطبق عليهم نزعة تلفيق النصوص)- كانت تتوجّه لدى هؤلاء توجّهاً محدداً سلفاً، ويرمي توجّهها هذا إلى عالم مكرور لأنّه مستعار أصلاً، وإن بدا أنّه نافرُ التركيب ومبهرجٌ في
الظاهر. والتلفيقية في هذا النمط من الشعر الحداثي قد تختلف عن تلفيقية الشعر العمودي اختلافاً محدداً من ناحية معينة. فهذا الأخير يتحمّل المقولة المعروفة “ما أرانا نقول إلّا معاراً”.
الكتاب يشكّل رؤية مغايرة للشعرية العراقية، من خلال طروحاته ومنهجه، فقد درس فيه ناظم: بَرْزَخُ محمد مهدي الجواهري، شِعريّةُ العابث: محمود البريكان، نَيْسانُ سعدي يوسف، أحلامُ حسب الشيخ جعفر، مآلُ سركون بولص: قصيدة سرد، أطيافُ هولدرلين: تشرّدُ خالد المعالي، قيامةُ شاكر لعيبي، سهولُ طالب عبد العزيز، مآزقُ عبد الزهرة زكي، تناسُخُ محمد مظلوم، بُهتانُ العالمِ: أحمد عبد الحسين، موتُ الشاعرِ مفتَرَطاً: عبد الأمير جرص، ساموراي باسم فرات، وشعراءُ ما بعد الدكتاتورية في
العراق.