الانفعال عبر الزمن

اسرة ومجتمع 2018/11/14
...

د. خالد الوائلي
 
ما هي الا ثواني حتى تحول السكون الى هياج والدعة الى فوضى والهدوء الى صراخ بين الزميلين المتجاورين في مكتب عملهما رغم ان المدة التي قضاها الزميل الثاني في هذا الموقع الوظيفي لم تتجاوز الشهرين ! 
أي انه لم تكن هناك أسباب الروتين القاتل او ضغوط العمل متداخلة بينهما حتى يتصرفا هذا التصرف الغريب ويتناوشا هذه المناوشة الكبرى في الكلام ويتبادلا الاتهامات والشتائم والالفاظ الجارحة لمشاعر الآخر ، حين هدأ الوطيس وسكنت العروق وهدأت الأجراس استطلعنا فضولين مستكشفين منهما عن سبب تلك الفورة المفاجئة في المشاعر وتلك السورة العجيبة من الغضب ! وحين سالنا احدهما وهو الأهدأ وجداناً والأقل عناداً والأكثر اتزاناً بحيث يبدو وكأنه الطرف المتضرر من الحدث فأجابنا متردداً بأنه أضاع مفتاح المكتب الذي يضم أهم أوراق العمل في غرفتهما المشتركة مما أدى الى هياج صاحبنا الآخر وانفعاله الشديد وبدأه بالتهجم واطلاق الكلام على عواهنه حيث أجبره ذلك على الرد بمثله قبل أن يجدا بالصدفة نسخة ثانية احتياطية عند معاون المدير فيُحال غضب الزميلين وجرأتهما على الآخر الى لحظات ندم طويلة خصوصا عند الزميل الأول الذي تسرع بانفعاله المؤسف هذا بحيث جر معه زميلنا الآخر الى نفس منطقته الانفعالية فالانفعال لا يولد إلا الانفعال وقوة الفعل لا تستجر معها الا قوة رد الفعل بنفس القوة وإن كانت بعكس الاتجاه ! 
مشكلة السرعة في الانفعال في مجتمعنا وفي تكويننا النفسي كعراقيين منفعلين دوماً مع الأحداث ومتناغمين مع صعودها النفسي وهبوطها كأننا في دولاب هواء الحياة منسجمين متأثرين ! 
السبب الأولي لتلك المشكلة هو سوء الظن بالمحيط وتأويل الكلام المحيط بنا وتراكم الضغوط النفسية عند أي فرد يسبب ظهور هذه الحالة من التسرع بالانفعال مع الحدة في التصرف وعدم منح الاخرين فرصة لايضاح معنى كلامهم او نية مقاصدهم !  
ان  التأني في اتخاذ القرار هو الذي يتيح للفرد زوايا رؤية أوسع من الزاوية الوحيدة التي نظر بها المتسرع الى الامر أو المشكل الذي تعرض له وأن التروي يجعل الفرد في وضع أفضل لاتخاذ القرار المناسب ، ففي التأني السلامة وفي العجلة الندامة كما قيل سابقاً ، ومن أشهر من عرف بالعجلة ولكنها العجلة المحمودة هو ( عباس المستعجل ) أي عباس بن مرداس السلمي في الموصل صاحب المزار القريب من سوق الصاغة وسمي بذلك لأنه كان ( مستعجلاً ) في شفاء زائريه من الاسقام لذلك اشتهر بالمستعجل ولا نعرف هل كان مستعجلاً في حياته كذلك رحمه الله ، وهنا أود أن أذكر قصة باختصار يقال بانها وقعت في الخمسينيات من القرن الماضي في لندن حين سأل السفير الهندي وزير الحارجية البريطاني عن سبب منحهم للعراقيين الاستقلال بعد سنوات قليلة من احتلالهم بينما طال بقاؤهم في الهند عشرات السنين رغم كبر حجمها وكثرة سكانها
وتنوعهم ؟  فأجابه السفير بأنني سأجيبك غداً في موعدنا عند الساعة الثالثة ظهراً ، جاء السفير الهندي الى مكتب وزير الخارجية البريطاني قبل نصف ساعة من الموعد وجاء بعده بخمس وعشرين دقيقة، اذ كان على موعد ايضاً مع السفير البريطاني ، أي قبل خمس دقائق من الموعد ! دقت ساعة ( بغ بن ) معلنة الثالثة ظهراً فدخل مدير المكتب الى الوزير مذكرا بالموعد ، فما كان من الوزير الا ان يطلب تأجيل اللقاء لربع ساعة ، مرت الربع ساعة طلب حينها السفير العراقي من مدير المكتب تذكير الوزير بالموعد 
مجدداً ! 
دخل مدير المكتب الى الوزير فطلب منه الوزير ان يمدد الموعد ربع ساعة أخرى مع الاعتذار هذه المرة ! جلس السفير العراقي على مضض هذه المرة ، وعند انقضاء المدة كرر السفير طلبه من مدير المكتب ان يذكر الوزير بالموعد فكرر السفير التأجيل لربع ساعة أخرى ، هذا التمديد الأخير لم يرق لسفيرنا في لندن فغادر المكان على الفور تاركأً السفير الهندي في
الانتظار ! 
خرج الوزير البريطاني ووجد السفير الهندي الذي اخبره بمغادرة السفير العراقي عندها قال الوزير البريطاني : الان هل عرفت سبب مغادرتنا للعراق بسرعة ؟ 
غادرنا العراق لان العراقيين هم من استعجل خروجنا من بلادهم وليس نحن
المستعجلين!!
وكما أن الجينات الوراثية تتناقل عبر الأجيال عبر الآباء والأجداد سائدة كانت أم متنحية  فإن اللاشعور الانساني القديم كذلك كالانفعالات له المجال الحيوي في نشوء مثل ردود الفعل هذه وهو ما اسميه بـ ( توريث اللاشعور ) الذي ينتقل عبر الدهور والعقود المتعاقبة كنسمة نسماء في ليلة ظلماء في  بادية هيجاء من دون ان نشعر بها أو ندرك كنهها وهذا من بدائع الخلق ولطائف الطبائع الإنسانية !