صنع الواقع تحت مظلة غير واقعية

ثقافة 2019/09/30
...

 
وجدان عبدالعزيز
 
طالعت مجموعة (وسألهم عن القرية...) للكاتب أنمار رحمة الله، وعشت مع احداثها الغريبة، فوجدت الكاتب يحاول بقصدية القفز فوق الواقع، وصناعة واقع تحت مظلة، قد تكون واهنة، الا انها خلقت مشاهدا عجائبية حد العبثية، جعلت المتلقي يفكر كثيرا قبل اصدار احكامه على حالات السرد في هذه القصص، كون موضوعاتها الواقعية، تحاول ان تكون خارج اطار الواقع، رغم انها تغازله غزلا شفيفا في بعض جوانبه، انها جاءت بجديد، لكن نزول هذا الجديد جاء باهتا يثير مشاغلا اخرى، غير مشاغل حياتنا الواقعية، التي نعيش بين اكنافها، ونعاني اوجاعها، لا شكّ ان الكاتب يشير اليها من طرف خفي، وكما قلت إنّه بقصدية يحاول فتح فضاءات محاذية لفضاء الواقع، فالقصة لاغرو أنّها تحوي فكرا وتشخيصا واستعارة للوقائع يحاول الكاتب جعلها محورا للبحث عن فكرة التعبير، الذي يحمل قضية واتجاهاً، لذا مثل هكذا قصص تحتاج لدراستها الى صبر ودأب للامساك بموضوعة الكاتب، واظن هناك منحى نفسي اتخذه الكاتب في المعالجة، خاصة ما طرحه من اشكاليات في صور فنية تجمع بين الجمال الفني والمعالجة الموضوعية، فيصبح النص محاولة لاستقراء الحياة وتقديم وجهات النظر المختلفة شريطة ألّا تتناقض مع العملية الإبداعية الجمالية والموضوعية، وكانت الشخصية في قصص رحمة الله تشير إلى الخيال الفني ومساحة التأويل في الصورة التعبيرية، ومن ثم تشتبك ذهنيا ونفسيا مع المتلقي كضمير مرادف للحقيقة، ورؤية أحادية خاصة تعيد اكتشاف الواقع من زاوية جديدة، كأن تكون من صناعة الكاتب نفسه، إذ استطاع الكاتب رحمة الله خلق واقعية مندمجة مع ذاته، وأفرز واقعية أخرى تبدو مختلفة لقدرتها الفنية والموضوعية على التنويع والدخول في عالم النص بواسطة القضية وعناصرها الفنية، والواقع العراقي بحكم اوجاعه من آثار الحروب بدت قضاياها مهيمنة على اجواء كل الانتاج القصصي وخاصة بالتركيز على الآثار المُدمّرة للحروب، فمثلا لو اخذنا قصة (المعلم) من القسم الاول ودرسنا حيثياتها من خلال احداثها، فالمعلم يدخل القرية، وهو رجل وسيم ونظيف ويتجه (صوب شبه مدرسة أنهكها تعاقب الازمان، وصراخ الهجير، ونحيب المطر، تحوي غرفتين: الاولى غرفة يعيش فيها المعلم، والثانية صف يأوي اطفالا متهرئة أثوابهم، متربة وجوههم، حلّ بينهم بعد فصل معلمهم السابق لغيابه الطويل عن دوامه الرسمي)، وهذا وصف لواقع موجود، لكن حينما أدرس علاقة هذا المعلم مع الحوذي، الذي هرب حماره صوب الغابات المحاذية، إذ جاءت الحادثة من احد التلاميذ، الذي ساعده المعلم وظهر أنّه ابن الحوذي الذي هرب حماره نحو الغابة، والحوذي رجل عجوز يعيش على هذا الحمار، فأخذ المعلم يفكر في مساعدته، المهم جمع امره وطرح على الحوذي ان يقوما بنقل حاجياته ليلا، حتى يكوّن له مبلغا معينا لشراء حمار جديد فـ (دمعت عينا الحوذي فرحاً، ورجفت كفاه وهو يقبل رأس المعلم ويديه، والاخير يهتف مستغفرا ربّه، منتشيا بهذا الصنع)، لكن الامر لم يستمر بهذا المنوال الطبيعي إذ انقلب الحوذي عليه و(اخرج سوطا كان مندسا بين اغراضه القديمة، اراد المعلم إفهامه أن السوط لم يكن متفقا عليه، لكن الحوذي تجاهل كلامه، وكأن لاوجود له، فلم يتمالك نفسه صارخا بقوة: (ماذا تفعل ..؟ انا اتحدث معك!)، لكن صرخته التي أرعدت الزريبة لم تثر الحوذي، اذ رد عليه بجلدة موجعة)، فشريحة السرد في مساعدة الحوذي واقعية، لكن فعل الحوذي تجاه المعلم، وجعله بديلا لحماره.. شريحة سرد غير واقعية، هذه الغرائبية التي صنعها الكاتب، قادت الى حالة من التفسيرات المتعددة الاتجاهات، فهذه منطقة غرائبية خلقتها ضغوطات الاحداث الموجعة على الانسان، ومع زيادة تعقيدات الحياة والتطور التكنولوجي وكثرة الحروب، يصبح الإنسان دائمًا فريسة سهلة للتوتر والضغط، فنجده يعاني من الأرق والقلق أو آلام عضوية، ما هي إلّا أعراض للضغط النفسي، بل وأصبحت الضغوط النفسية من أكثر المسببات للأمراض في العصر الحالي. 
وهنا سقط الحوذي تحت الضغوطات النفسية، فتصرف باللاوعي واسقط مخزونات الحرمان على المعلم، الذي يعتبر يد الرحمة، التي امتدت اليه لانتشاله من العدم.. اذن هنا اخضعت مسار السرد الى فحوصات نفسية، جعلت الحوذي يخرج من منطقة الاخلاق المتعارف عليها الى منطقة اخرى لم تكن في الحسبان، فهل من المعقول ان اهل القرية تخلوا عن اخلاقهم واتفقوا مع جريمة الحوذي في الاعتداء على انسانية المعلم صاحب الخطوة في مساعدة الحوذي، هذه هي الاشكاليات التي آثارتها قصص انمار رحمة الله، وجعلتنا نفكر جليا في فك شفراتها.. واكد هذا المسار في قصة (الطعنة) من القسم الثاني من مجموعته (واسألهم عن القرية...)، وكانت رواية ابيه، إذ (قال ابي أصبت وانا طفل اثناء الولادة، حين انغرزت ابرة تحملها ممرضة في خاصرتي، ثم كبرت وكبرت الابرة معي وصارت نصلا يافعا)، بينما أمه تنكر هذه الرواية، إذ (تقول ان النصل في الاصل زنجار لحديدة عتيقة ترسب في لحمي، مربوطة بها قطعة زرقاء ذات عيون خمس لحمايتي)، والغريب ان الكاتب يصرح (وهو الراوي العليم) بقوله: (أنا الوحيد الذي كنت اعرف واخفيت الحقيقة ولم اعلنها)، فكيف يعرف وهو طفل صغير، ثم يعلن انه حلم بمعركة تدور في العصور الوسطى، ويبدأ بتكوين شريحة سردية غير واقعية، بل غريبة وغير معقولة، حيث ظل يعاني من طعنة معركة العصور الوسطى، وهي في عالم الاحلام، فكانت معاناة بطل القصة وهو تلميذ، ثم وهو شاب، إذ اختار انسانة ضريرة، كي لا ترى خلل مشيته، وتصاعدت معاناته حتى قرر التخلص من هذه المشكلة، التي صاحبته وهو طفل يحبو، ثم وهو يافع ثم شابا، وقرر التخلص منها بسحب النصل من خاصرته، لكن هنا يرجع الكاتب الى معانقة الواقع من خلال الاشياء التي تخرج من فوهة الجرح، حيث خرجا قبرا ابيه وامه ووو...ثم بعد ذلك يموت..(سأموت الان.. اموت ولم انتصر في الحرب التي حلمت ان اكون فيها قائدا، ذات ليلة من ليالي الطفولة)، وهنا طرح الكثير من المعالجات الواقعية لامور حياتنا، ولكن بطريقة اشارية عميقة الغور.. اقول تبقى قصص انمار رحمة الله مثار نقاش وتحتاج لقراءات المتعددة...