اليد تكتشف فردوسها وطغراءها فتمضي حرّةً
ثقافة
2019/09/30
+A
-A
زعيم نصّار
في المقبرةِ التي
نسيها المستعمرون تحت الشمس
كان الحارسُ
يغسلُ بالنبيذِ المرِّ
ندمَ الشاهدةِ التي
لم تعد تعني أحداً ما.
يستبدل جنونه في جنائن الفراغ
هذا المقطعُ من قصيدة مقبرة الانكليز في كتابه الشعري الأول {اليد تكتشف» الذي كنت أرى وقائع قصائده يومياً قبل كتابتها بين عامي 1990 و 1993. في تلك الأيام كنّا لم نفترق يوماً واحداً أنا وصديقي الشاعر عبد الزهرة زكي، جلوسنا في المقهى، تجوالنا في المدينة ووقائعنا واحدة.
تجربة "اليد تكتشف" الشعرية عشتها مع شاعرها بتفاصيلها الدقيقة، مشاهدةً وتفكيراً وتأويلاً وقراءة قبل النشر، ومنها حكاية هذه القصيدة إذ نصادف يومياً كنيسة كانت مهجورة منذ عقود، إنّها كنيسة بناها الانكليز، وكانت للبريطانيين في العهد الملكي إذ لا تبعد عن سفارة بريطانيا التي تقع على الجانب الآخر من تمثال الملك فيصل سوى عشرات الأمتار.
لستُ هنا في المقام الذي عليّ أن أسرد فيه الوقائع نفسها، بل في الحال الذي اواصل فيه قراءتي نفسها بصحبة شاعر أسس وجوده الشعري على ما يسميه هيجل (ذاتية الخلق الروحي) إذ يعالج الوقائع اليومية بتعبيرية شعرية حينما يصدمه غموضها، شاعر بدأت يده تكتشف غرابة الواقعة لتكتب اسرار غموضها، تأوّل غرابة اليومي وتجرده على نحو جمالي وتعمق فكرة الكشف ذاتها، كهذا الحدث المثير الذي حصل في زقاق مهجور خلف ساحة الميدان:
(في المكان الذي لا يرى،
كان يستبدل جنونه
ويسوي الآخرون
من حوله وجهات نظرهم.)
وكنّا قد رأينا في الزقاق المظلم رجلاً يستبدل ملابسه الرثة الممزقة، ثياب عمله (كرجل أمن) يدّعي الجنون، هكذا كانت فكرتنا عنه، بعد ان ارتدى ملابسه الجديدة والانيقة، وذهب الى بيته مساءً مهندماً وعاقلا) بعد يومين حينما التقينا في مقهى حسن عجمي قرأت قصيدةً عن هذه الواقعة وهي (جنائن الفراغ).
في مخبأ الألغاز المكشوفة
قصيدته تُصبحُ غامضةً من فرط توقها الى الدقة في التعبير ورغبتها في تجنب الاسلوب التقريبي، ومقاومتها لانحراف الكلمات النثرية عن اداء المعنى انها ايجاز، لكل شيء يريد ان يظلَّ كنزاً مخفياً ويغلّفُ نفسَه بالأسرار.
اليد تكتشف ديوان نجح في أن يوهم الكثيرين عن طبيعته، إنه كتاب يبدو لقارئه للوهلة الأولى على أنه عمل تجريدي ذهني، قيل الكثير عن مثل هذه القراءة، لكنه جعل للشعر طاقة وقدرة وصرامة في تحويل الوقائعي واليومي والحسي إلى ما هو تجريد. التجريد هنا هو عمل من أجل أن يسبغ الشعر على ما هو عابر وطارئ وزائل صفات الديمومة والقدرة على التعميم. ما هو خاص يكون عاماً، وما هو زائل يستحيل خالداً، بينما المحدود يتحول إلى كلي. ولقد عشت تفاصيل ووقائع الكثير من نصوص الكتاب كما أشرت في المقدمة.
ربما من الممكن ان اسمّي هذا المستوى الأول من رؤية الشاعر للعالم: بشعرية تجريد الوقائع اليومية الغامضة القائمة وحدها على كشف غرابة الواقعة التي عشناها معاً.
هذه القصائد القوية والصامدة بوجه الزمن تتحصنُ في مخبأ ألغازٍ مكشوفة فقط للمهيأ لها، الشعر له الغازه، الكتاب الحقيقي يخفي مؤلفه، ويتطلب حضور قراء أقوياء ليظهرهم، فهو كتاب يقوم وحده، يكتب سيرته من خلال عقول الآخرين حتى لو غلق ابوابه كلها على فهم الجميع:
هو ينسى اوهامَه
في الظلامِ
ثم يُعيدُ ترتيبَها
في اليأس.
ان الغموض ليس من طبيعة لغة الشعراء، بل تفرضه على قصائدهم كثافة العتمة، وغرائب الواقع، وخفايا الكون، وليل النفس واللغز الذي تنطوي فيه، انهم لا يتقصدون الغموض، بل كلمتهم لا تقل دقة وعلمية عن منهج الرياضيات
تبتكرُ النكرات جنائنَها
ويقوّلُ غموضَه في الشمس النهارُ.
هذه الكلمة المجازية الملغزة، تجعلني ارى المشهد بوجهات نظر مختلفة وبتأويلات شعرية متعددة. اذن من حق الشاعر، بل من واجبه، ان يتوغل في اكثر المناطق سريةً.
ان هذا الغموض مردّه الى الايجاز، ورشاقة الجملة، والتحرر من سيولة العبارة النثرية، والبناء على ايقاع الاختزال، فينجح في تطهير اسلوبه تماما من عناصر النثر الفاترة ويصل الى مسعاه لإعادة خلق اللغة من جديد وسط ممانعة المفردات المادية المثقلة بمداليلها الارضية.
هذا الغموض له سبب اخر هو العمق ان صوت الشاعر يأتي من بعيد، انه يعبّر عن حقيقتين: خارجية: واضحة ومفهومة، ومباشرة. لكنها ملائمة لموضوعها، ووثيقة الصلة به، وداخلية: مستترة وليست يقينية وغير مباشرة، تفصح عن نفسها من خلال موسيقاها الداخلية الخاصة، بصلابة لا تخبو.
راقبتُ النارَ كثيراً
ثم عدتُ وأنا لا أفرق بين الطائر
وأثرهِ
عدتُ وأنا أشبّه الطريدةَ
بالنسر.
عدتُ وأنا ارى الشجرةَ لهباً
يأتي عليّ
لا انثني عنه.
أبواب المعنى والمفاتيح
عبد الزهرة زكي بتجربته الشعرية ومستوياتها الثلاثة: المستوى الاول: اليد تكتشف وكتاب الساحر بقصائده عن الحبّ الغريب البدائي المندمج بأغاني العشاق الأوائل وبالطبيعة، فهما تجربتان منفردتان ومتفردتان بعيداً عن المستويات الاخرى في الرؤية الكلية لشعريته.
المستوى الثاني: كتاب الفردوس وطغراء النور والماء وحينما تمضي حراً والمستوى الثالث : كتاب اليوم وشريط صامت والديوان الغربي للشاعر الشرقي.
والجامع ما بين المستويات الثلاثة يمكن تسميته (بالسرد الشعري)، وهو مفهوم يريد ترسيخه لتمييز السرد الشعري عن السرد بشكل عام.
طغراء النور والماء وفيها قسمان: القسم الاول نص طويل تحت عنوان نهار عباسي وهي يوميات عباسية استعادها الشاعر في ذروة تحطم بغداد مكانياً وتشوه صورها بفعل الحرب والحصار:
وفي المخطوط
كان لاسمكِ سرٌّ
من ملاكٍ يتشبّهُ بالعطرِ
كان لجمالِكِ سر
من عسلٍ خالطهُ النور.
اما القسم الثاني: رواية الهدهد ويتكون من 28 قصيدة قصيرة ويكاد يكون هذا العمل الشعري جديداً في تكنيك الشعرية العربية ذلك انه مركب من ثنائية متلازمة فهو عمل متصل مع بعضه نصوصاً، مع ان كل نص من نصوصه وحدة شعرية مستقلة بذاتها، هذه النصوص تكتمل مع بعضها وتتناغم بخيط سري يجذب الشخصيات والرموز والدلالات الاساسية في كل نص. لنرى ان هناك وحدة شعرية تبدأ من النص الاول الى النص الأخير، إذ تظهر لنا شخصية المعلم والملاك والفقير و الهدهد، وقصص عن الذئاب والصحارى وحكايات عن الطيور والعواصف.
رواية الهدهد عمل شعري يؤسس لاستثمار السرد قبل تحوله على يد الشاعر الى سرد شعري، وهنا اقصد كيف اجتهد عبد الزهرة زكي بتحرير السرد من آليته النثرية اليومية والتفاصيل الخبرية الى سرد شعري جمالي شخصي وهو تعميق وتطوير لتقنية السرد كما استثمرها في ديوانه كتاب الساحر لينقذنا من الحكي التقليدي ويزجنا في المعنى الشعري هذه القيمة التي شغلت اهتماماً أساسياً إنما بتجليات متنوعة في تجربته الكلية ليؤكد عنايته المستمرة بالكثافة التعبيرية: تكتفي القصيدةُ بما تتطلبه من القصائد أمكنة فيها الكلمات تزهو بأناقتها وتستعيد طاقتها الايحائية وقدرتها على وضع الشيء في اكتماله الأبهى يأخذها الشاعر ويعيد تركيبها من جديد ليخلق منها لغة فائقة، شاملة تشكل قاموساً خاصاً داخل الابجدية الأم، وهنا أشير الى شغل القصيدة التي تتبع تحليقها متقبلة كل قادم، لتعترف بأن للحياة معنى مختلفاً وألف مفتاح لبابها كما في دواوينه الأربعة القصيرة التي جمعها كتابه الشعري حينما تمضي حراً الذي يشكل مع طغراء النور والماء وكتاب الفردوس فضاءً شعرياً معنياً بتحويل ما هو وجداني وتأملي الى عمل شعري جمالي خالص.
وفي هذا المستوى مضى الشاعر باتجاه كل ما هو جمالي، إنها متعة الروح في دوامة الخراب، الروح الشاعرة التي تبتكر جنائنها وفردوسها حتى وهي في جحيم الحياة اليومية ونكدها.
الخلاصات: الطيّات والتأمل
عبد الزهرة زكي ترك لنا آثاراً تجعلنا نمتلك طفرات هذا الحماس الجمالي الذي حفّزه الى الكتابة، ان شعريته منقسمة بين الأرض والسماء، فيها لغة الروح والجسد، أقصد أن جزءاً اساسياً من تجربته الشعرية معنيةً بالتأمل بما هو وجودي وجمالي وكوني، توحد طيات الكون المتشظية، يذهب الى اعماق التفكير، لكي يكتشف اسرار الوجود، ومراكزه الخفية، مع ايجاز مكثـّف، يفضي الى غموض الاناشيد الصامتة،
ليشكّل الزمن والاشياء والعالم من جديد وحسب قوانين جمالية.
فيما الجزء الآخر معنيٌّ بمشكلاته كإنسان على الأرض بوقائع حياته ويومياته، وما يراه في الواقع، واقع المدينة العراقية، ليخلق كلاماً شخصياً وقاموساً خاصاً، وهذا الجزء نجده في كتبه الشعرية، (كتاب اليوم، وشريط صامت- نصوص عن السيارات والرصاص والدم، ديستوبيا المدينة في جحيم الحرب والحصار، وكتابه الديوان الغربي للشاعر الشرقي حيث الأفق الايجابي للمدن المثالية والفاضلة. وهذا هو المستوى الثالث من رؤية الشاعر للعالم: ومن الممكن ان اسمّيه شعرية الوقائع البليغة التي سوف اخصها بمقالة
لاحقة.