سلاماً في رحلتك الأخيرة

ثقافة 2019/09/30
...

كاظم السعيدي
 
 
واجهت الساحة الثقافيّة، نبأ انطفاء شمعة جديدة في سمائها بشكل مفاجئ، مما جعل الدموع تنحبس في المحاجر، وتُعتقل المفردات بين الشفاه.. رحل فقيدنا الروائي راسم قاسم.. كان مثالاً رائعاً للانسان الكفوء، والمخلص، المملوء حيوية، ونشاطا بعطائه المهني كمدرس، والانساني والثقافي، كمثقف وكاتب.. وقد ظلَّ حتى اللحظات الاخيرة من ايامه حاضراً بالوسط الثقافي، ومتابعاً له بشكل متواصل، بعطائه الدائم المستمر.. فما أقساكَ أيّها المارد الجبار، الذي اسموكَ - الموت- والذي لم تتوقف يوماً عن حصد ارواح المتميزين، ممن يعملون بصناعة الحرف، وصياغة المفردة المحلقة، والذين هم نجوم ساطعة في سماء بلدانهم.. ولكن الحقيقة تقول: إنّ هذا هو قانون الحياة، والذي سنواجهه جميعاً ونمرُّ من بين يديه.. رغم أنوفنا شئنا أم أبينا.. فما عسانا أن نفعل؟ حينما يغيّب الموت عزيزاً على قلوبنا مثل الاستاذ الراحل.. ابا محمد، والذي كان اخاً وصديقا غالياً على قلوبنا جميعاً، ونستذكره بقلوب دامية.. فتعود بيَ الذكرى الى ايام المعاناة، التي نال منها شظف العيش، فلم يستسلم لها بل قاومها ببسالة ووقف بوجه اقسى الظروف العصيبة.. حتى عُيِّنَ موظفاً في دائرة الكهرباء، حينما كان طالبا في الثانوية وكلية الآداب، وعند تخرجه من الكلية، انتقل للعمل بوزارة التربية.. بعنوان مدرّس للغة العربية آنذاك.. فاستعاد بعد تخرجه من الكلية بعض الراحة، من عناء الدراسة والعمل، لكنها كانت منه تضحية جسيمة وبطولة رائعة، حينما يتذكرها يشعر بالفخر.. وبعد ذلك تفرّغ للقراءة مستغلاً كلّ أوقات الفراغ، خاصة في العطل الرسميّة، إذ كان قارئاً نهماً، يرتاد قهوة البلدية في الستينيات باستمرار، ليلتقي باصدقائه من المثقفين والقرّاء.. حتى اكتمل نضجه الثقافي والفكري، عندها تفرّغ لكتابة، المقالة، القصة، والرواية، وراح ينشر نتاجه الادبي في الصحف والمجلات العراقية والعربية.. حتى ذاع صيته، وأضحى اسماً لامعاً في سماء الادب.. إذ صدرت له مجموعة قصصيّة وهي – الطائر الذي في عنقي- ثمَّ ازداد عطاؤه الادبي، فاصدر روايته الاولى وهي- بداية النهايات- والتي فازت بالجائزة الاولى، التي خصصتها دار الشؤون الثقافية.. ثمَّ ازداد اصرارا على الابداع، إذ صدرت له مجموعة قصصيّة وهي- دويٌّ على ايقاع متزن- وقد شارك فيها بجائزة الطيب صالح، حتى حصدت الجائزة الاولى ما جعل اتحاد الادباء والكتاب في العراق، ان يحتفي به، وذلك بجلسة احتفائية، تكريماً لهُ، ليفخر بها كلّ قريب وصديق.. فأنت يا ابا محمد ذلك الصديق الوفي والانسان المملوء عطاءً وانسانية.. وقد طفحت من بئر الذاكرة، يوم رحيلك عنا.. تلك الايام الخوالي، التي جمعتني واياك في الغربة، لأول مرةٍ ألتقيكَ فيها ،عند حصولنا على عقد عمل كمدرسين في الجماهيرية الليبية، سنة 1995م ثمَّ التقينا ثانية في مدينة سرت ثمَّ عملنا معاً في التدريس، في مدينة هون في المدرسة نفسها، وهي ثانوية عبد المطلب الجماعي ومن خلال اللقاء اليومي في المهنة تعمّقت صداقتنا، حتى صار احدنا لا يستغني عن الاخر.. فأصبحتَ الصديق المقرّب منّي جداً.. ورحيلك يا ابا محمد قد ملأنا بالحزن والاسى الشديدين.. لأنَّ فجيعة رحيلكَ عنا مفاجأة لنا.. ولذويك، محبيك.. وستبقى ركناً مضيئاً في عالمنا الثقافي والفكري، وطعنة حزينة دامية في القلب، تقضُّ مضاجعنا كلما تذكرناك، لئن لك فراغاً في وسطنا لا يمكن سدُّه.. نسأل الله لك المغفرة.. وان يسكنك فسيح جناته.. ويلهم ذويك ومحبيك الصبر والسلوان.