حامل بريد السلطة

ثقافة 2018/11/14
...

 حسين القاصد
 يذهب عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي إلى أنّ الشاعر ليس مصورا، بل الأولى أن يكون رساما يصور الأشياء كما يشتهي، فالأشياء تظهر على لوحته جميلة إذا كان فرحاً، وقبيحة إذا كان حزينا، وسبب الفرح والحزن، هو الأصفر الرنان في معظم الأحيان، وهو ـ بهذا ـ يجعل سلطة المال مهيمنة على مزاج الشاعر، وعلى وصفه، مدحاً أو هجاءً، ويضرب مثلا بقوله (يُحكى أن رجلا رأى إبليس في المنام، فاندهش حين رآه جميلا على عكس مايصوره الرسامون. فسأله في ذلك، فأجابه الملعون، ماذا أصنع والقلم بيد أعدائي. لوكان ابليس سلطانا من سلاطين هذه الدنيا لجعله الشعراء مثل يوسف الصديق جمالا وبهاءً)، فالجمال والقبح والخير والشر والشجاعة والجبن والحق والباطل، لو كانت تصويرا، لجاءت على حقيقتها، لكن الشاعر يرسمها وصفاً وهو بذلك يزيّن من يشاء ويقبّح من يشاء. 
   يقول فولتير في هجاء صديقه: 
(في يوم ليس ببعيد .. 
في أعماق وادي العقيق .. 
لدغت حيّة جان فيرون .. 
هل تتصورون ماحدث ؟
 الحيّة هي التي ماتت)
وعلى الرغم من أنّ الملدوغ قتل اللادغ، وهو المنتصر، إلّا أنّ الشاعر جعل خصمه أشدُّ لدغاً؛ وما أريده هنا هو ان الشاعر يهجو صديقه، فالهجاء يوجه لخصم كان صديقا ـ على الأغلب ـ وتكون أسبابه أنّ الشاعر تعرّض لغدر أو خيبة من هذا الصديق الذي صار عدوا، أو عقد الصداقة انتهى لوجود مصلحة مع عدو ذلك الصديق، فلا أحد يهجو أحدا لا يعرفه، لأنّ من مقتضيات الهجاء أن يكون الهاجي على معرفة دقيقة بالمهجو كي يتمكّن من إصابته في ما يوجعه. 
   والشاعر السلطوي ليس مصورا، وليس رساما كما أراد الدكتور الوردي، لأنّه مقيّد ومأمور، والرسم نشاط تخييلي أداته الفرشاة؛ لذا لايمكن وصف الشاعر السلطوي إلّا بحامل بريد السلطة، فهو مكلف بايصال رسالة، والسلطة وجدت ان وسائط نقل الرسالة التي يملكها الشاعر، أفضل من تلك التي يملكه غيره. ومقابل خدمته هذه، سيحظى باستثناءات وامتيازات لايحظى بها غيره. ومن أمثلة ذلك، ما قاله الدكتور علي الوردي (حدث مرة أن أقيمت حفلة كبرى في بغداد، للدعوة الى مقاطعة البضاعة الأجنبيّة، وقد خطب فيها الخطباء خطباً رنانة، وأنشد الشعراء قصائد عامرة، وقد لوحظ آنذاك أن أغلب الخطباء والشعراء كانوا يلبسون أقمشة أجنبيّة)، ولنا أن نتصوّر ماذا كان يرتدي رجال السلطة، وهل كانت مكبّرات الصوت محليّة أم
 أجنبيّة!!.