عندما تصوّر نفسك الآن في بغداد، كما لو أنّك تصور ما حولك أيضًا، فالصورة مدوّنة لشيء في لحظة محتدمة بالحضور، ليس من صورة دون غاية، كلّ إنسان مكوّن من جسد وما يحيطه، فضلا عن ذلك، ثمّة أشياء لا بدّ من توفرها في الصورة، أي أن الصورة تملك بعدا زمنيا يتخفّى في طبيعة الرؤية، وإلّا ليس من صورة تحاكي فراغ الجسد. ولذلك تحمل الصور زمنين ومكانين: زمن ومكان الجسم المصوّر وكلّ ما من شأنه أن يقول إنّني هنا في هذه اللحظة وفي هذا المكان، وزمن ومكان يقترن بوجودي وبوجود ما حولي،عندئذ يكتمل بناء الصورة.
كنت أفكر في ذلك، وأنا اجتاز أزقة ملتوية ممتلئة بالقاذورات كي أصل صباح الجمعة إلى شارع المتنبي، حين تجمّعت في ذهني أجزاء متفرقة من صور قديمة يوم كنّا نحف باقدامنا إلى مفاصل شارع الرشيد. قلت إنّ الصور التي أسجلها تحمل زمنها الحاضر، بينما الصور المستعاة متخثرة بالزمن الماضي. أستعيد في هذا اليوم في شارع المتنبي شيئا من زمني المختلط، وفي لحظة لاشعورية وجدت نفسي محلقًا في سماوات الذاكرة يوم كان جسدي جزءًا من فضاء الشارع، فضاء لشارع ينشد أن يرى حركة الجموع وقد انتظمت بطريقة حضارية.
يوم الجمعة يصبح يومًا مخصصًا للكثافة الأسبوعية مصحوبا بأحاديث غير مسبوقة عن الكتاب والثقافة، وانا في سيارة الأجرة وأحاديث عن الطريق الاسهل للوصول إلى بحر شارع المتنبي، كانت ايام زمان تتوالى خلال النافذة، ما من شيء يعيد لك الماضي. نشعر دائمًا بالفقدان عندما نهاجر عن أوطاننا، مثل هذا الشعور هو ما يجعلني أن أشد رحالي كلّ شهرين لاعود إلى بغداد، أتشمم عطرها الدفين في اشيائها، أعود لصوري القديمة، أتنفّس عذابتها يوم كنا جزءا من مصائرها، بالرغم من أن تلك الأشياء التي تعودنا رؤيتها قد أفلتت. فالصورة التي رسمتها في ذهني عن هذه الرحلة الصباحيّة مليئة بالتفاؤل القديم، هذا شيء حسن قلت مع نفسي، بالرغم من أن الممرات والمماشي إلى الشارع ممتلئة بالقاذورات، شارع للثقافة ينشأ في داخلي بعد أن حقق وجوده في ذاكرة المدينة، وتناسل في مدن عراقية أخرى، وأن حضوره القوي هذا إعلان ضد حملة الأسلحة التكفيريين، وضد حملة الأفكار الدينية المنغلقة، أولئك الذين هددونا يوما بغلق الشارع وإحراق الكتب، حسدتُ نفسي على هذه الذاكرة النشطة وهي تبحث عن الجديد، وبمدينة محملة بإرث ثقافي عظيم، وبتاريخ للأمكنة تشهد مفاصلها على عمق الصلة بين إنسانها والثقافة، لكنّي فوجئت أن الصور التي تسجلها كامرتي، يغشاها ضباب الأزمنة الملتبسة، وكأنّني أدخل حيزًا لم أكن اقصده، ها أنا وسط الأزقة، تلك التي تؤدي إلى عصب شارع الثقافة، أو تلك التي تؤدي إلى عصب التاريخ -بغداد- التي احتضنت أزمنة المحتلين والغرباء على مدى قرون، لأجد أن الصور التي التقطها مغبشة، يكسوها غيم اسود، ويظلل شارع الرشيد طير الحروب التي لم تنته بعد، وكأنّ كائنًا غريبا يدخل ذاكرة الكامرة، ويعيد بناء الصور وفق ما يراه هو لا وفق ما أراه.
تاريخا الجسد والمدينة
عندما نصوّر انفسنا في بغداد نحتفظ بالصور، وبمن فيها، لأنّ اقترانها ببغداد تعني استحضارًا للتاريخ، وعندما تريها لاصدقائك في الغربة، تستعيد بها تاريخين: تاريخ الجسد وجوديا وهو مندمج في فضاء بغداد، وتاريخ المدينة وقد تشرّبت لغتها ومناخها جسدك، وغالبًا ما تكون الخلفية للتاريخين: حديقة القشلة، أو بيوت جديد حسن باشا، او جامع الحيدر خانة، او مقهى البلديات، أو ازقة الميدان وتفرّعاتها الملتوية ونداء النسوة المغشيات، او بقايا السلطة العثمانية وما بني عليها من اثار وزارة الدفاع والمدرسة المستنصريّة وبقايا أسواق، ولم تكتفِ الصورة بما يوجد فيها وحولها، بل ضمّت إليها الأغاني في المقاهي، واحاديث الباعة والمشترين، وأصوات المطارق وهي تؤسس، وسحنات الوجوه التي مرت في ظلال خيال الذاكرة، لا بل إن الصورة التي سيلتقطها الكائن الغريب تدوّن العواطف التي تكوّنت صباح الجمعة وهي تستجمع خيوطها المتقطعة من أزمنة كنت تعيش فيها هنا، وازمنة تعيشها في هجرتك، علّك تؤلّف منها نسيجًا يلف جسدك المتشظي بين مدن مختلفة، صورة لعباءة عراقية تُلائم الجسد، هذا ما رغبت ان احصل عليه في فضاء شارع مقترنة بأذان الجمعة. وكما تدوّن المواقف، تدوّن الذكريات، وكما تقول عن الشيء يقال عنك، وعندما تدلف إلى قيصرية حنش تلتقي بالاصدقاء تنطرح على أرضية الجلسة هذه التواريخ الصغيرة، لتشربها مع استكان الشاي، وكأنّها لعبة لا بدّ وأن تمارسها. ثمّ فجاة تنزل السماء قطرات مطر تغسل هذه الذكريات وتلقي بها في مجاري الشارع مؤسسة لقاع ينبض بملايين ذكريات من مروا، ومن جلسوا، ومن تفاعلوا، ومن تصوروا، وبعد جولة يوم، تحتفظ بصورتين: واحدة لك والأخرى للمدينة، كلتاهما يندب زمنا مضى، زمن ثقيل يتراءى من بين خصلات الشعر الأبيض. فجسدي لم يعد لي، بل تحول إلى شيء من أشياء شارع المتنبّي.
مرآة بغداد
تفصح الصورة في بغداد عن مرحلتين: مرحلة المرآة التي ترافقني اينما حللت، فأنا مرآة لبغداد عبر الصورة عندما أقدمها لصديق اجنبي أقول له: هذه بغداد، ومرحلة المدينة وهي تصبح خرابا، حينما وجدت نفسها مقترنة بمدينة عريقة، فقد جمعت الصورة بين تكوينين لكائن يبدو غريبا بالرغم من أنّه ابن المدينة، صورة جمعت بين العالم المتخيّل والعالم الواقعي، وتجد نفسك عندما ينظر الآخرون لك وانت تتصور، أن ما يحيط بك أصبح جزءا من الصورة الكلية للمدينة، اي ان الأشياء تتماهي مع بعضها عندما تحضر كأجزاء في مرآة الزمن.
كما لو أنّني أصبحت زواية او حائطًا او عمودًا أو شيئا، أو أن المدينة أصبحت عبر جسدي المنهك خرابا لايمكن أصلاحه.. فما تسجله المرآة هو أنني في تلك اللحظة اولد وأنا في السبعين، اتناسى عمري وزمني وابدأ أسجل تاريخًا لحظور شائخ، ها أنا أتعرّى من كلّ التواريخ، لأبدأ بصياغة وجود مادي لجسد مفترض يتيح لي أن أرسم فيه صورتي على حقيقتها، بمعنى أن تمنحني القدرة على ان اكون أنا آخر في بغداد، وليس أنا الذي كنت، فالذات تتماهى مع مدينتها، حتى لو كانت خربة والمدينة تتماهى مع ذوات بنيها، عندما تشعر أنّها مازالت تسمّى باسمائهم.