المكتبيّة.. مرض عراقي

العراق 2018/11/14
...

عدنان أبو زيد
 
أصيب صديق عراقي مغترب بالدهشة حين رصد ظاهرة في دوائر العمل الحكومي والخاص في هولندا، لم يألفها في بلده، وهي خلو المؤسسات من كرسي المدير المنحوت بعناية فائقة في العراق والدول العربية، وغياب اللوحة النحاسية التي تنتصب بشموخ فوق منضدة المدير، التي تشير الى اسمه ولقبه بخط عربي، تحف به الاقواس المذهبة والحواشي
المزركشة.
لكن البحث عن المدير ليس صعبا، انه هناك يمضي مع العاملين والموظفين، يمارس مهامه ويسد النقص، ويلتقي الزبائن من غير ان تجد أمّازا يفضل به نفسه عن زملائه الموظفين.
نقيض ذلك في مؤسسات العراق الحكومية والخاصة، اذ تمنع دون الوصول الى المدير، مطبات، وحراس، وبوابات.
وما ان تجتاز هذه الاهوال، فان طاولة عظيمة الأركان وكرسياً مترفاً دواراً، يمثل السور الأعظم قبل لقاء المسؤول المنتفخ في الشكل والمظهر، الفقير في المهارات والمعارف، الديكتاتوري في السلوك، والمتفرد بالرأي.
وكلما ساد الجهل في المرء، زاد تسلّطه، وضخّمت ذاته، واجلسها على علو، وحرص على المزيد من المتاريس مع الاخرين.
الامر يتعدى كونه ظاهرة بيروقراطية، الى اعتباره توعكا اجتماعيا، ينهش في الوظائف التي تأسّست لأجل خدمة الجمهور والتواصل معه، وليس 
العكس.
هذا الوباء الاجتماعي، أحد اركانه هو التخلف في الإدارة وعلومها، فما زال العراق يخرّج الالاف من الأطباء والمهندسين، ومجالات العلوم الأخرى، دون ان ينعكس ذلك على طرق إدارة الدولة، وتحديثها، والقضاء 
على مظاهر البيروقراطية فيها، والحيلولة دون جعلها أداة هيمنة.
ولا ضير في نقل قصة متداولة عن هوس العرب بلقب “مدير” المرادف للتسلط في المفهوم الاجتماعي العام، وفي تفاصيلها ان مسابقة في تجذيف القوارب بين فريقين عربي وياباني، كل فريق يضم تسعة.
خسر الفريق العربي الرهان، لان ثمانية من أعضائه نصّبوا أنفسهم مدراءً، وواحدا منهم، مجذفا، بينما الفريق الياباني قاده مدير واحد وثمانية مجذفين. 
ما زال المدير العراقي، يجد نفسه متغطرسا ليس بين الناس فحسب، بل بين موظفيه أيضا الذين يبالغون في تقديم فروض الطاعة له، بينما هو يعزّز من جبروته بالتهديد والوعيد لكل من يخالف رأيه.
يدير المدير العراقي، شؤون الدائرة، بطريقة الأوامر من وراء المقعد الدوار، والمنضدة الخشبية العظيمة الأركان، 
ويضغط بأصابعه على الجرس، لاستدعاء الموظفين، ولا يكاد يبرح مكانه الا اذا زاره مسؤول اعلى منه، ليقدّم بدوره فروض الطاعة والاستسلام له.
وطوال الوقت، تدور اكواب الشاي والقهوة، مستقبلا الضيوف والمقربين، وأصحاب الوساطات والعلاقات، حيث جل وقته يُنفق ليس لأجل خدمة العملاء ومعاونة الموظفين، بل لنسج العلاقات مع المسؤولين الاخرين، ضمانا لترتيبات مستقبلية وصفقات قادمة ومناصب جديدة.
بسبب هذه الثقافة التسلطية التي تربّت عليها الأجيال، ترهلّت الوظائف البيروقراطية، وازدحمت المناصب المكتبية، قابل انحسار الابتكار، وانسحاب الكفاءة، والأفكار 
المبدعة.
يشكّل البيروقراطيون، نخبة كبيرة بين النخبة الوظيفية، بينما تنحسر هذه الطبقة الطفيلية بشكل لافت في اوروبا والدول المتقدمة، الامر الذي انعكس على النمو في الاقتصاد، والتطور في طرق الإدارة، والتوسع في الوظائف، بعيدا عن إطار بيروقراطي مكتبي، لا يزال يرتبط في الذهنية الشعبية بأصحاب الكروش من المدراء النمطيين، الذي فاتهم قطار العصرنة والتحديث، ولم يعد بإمكانهم اللحاق به، لكنهم رغم ذلك، متمسكون بكراسيهم ومناصبهم.