حسن العاني
اشهد للتاريخ: ما صادف الاعلاميون كرماً مثل كرمه، فبعد ان قصّ الشريط معلناً عن افتتاح الشارع الذي تم تعبيده حديثاً، حتى أحمرّتْ اكفُّنا من التصفيق وبُحت الحناجر من الهتافات والقصائد الشعبية، أما زميلاتنا الاعلاميات فكانت لهن سيادة الموقف وهُنَّ يطلقن الهلاهل بانغام متباينة، وينثرن الحلوى على رأسه، وابتسامة انتصار- تلاحقها عدسات الفوتوغرافيين والفضائيين – تغطي ملامحه ووجهه وجسده الموشوم بالنعيم والعافية.. بعد أن أنتهى ذلك الكرنفال الجميل، وانصرف موظفو وعمال الدائرة وبعض الضيوف القادمين من الوزارة، دعانا السيد المدير العام (أعني نحن الاعلاميين فقط)، إلى مؤتمر صحفي قدّم في اثنائه معلومات وافية بالأرقام عن الشارع، وامتدح متباهياً اليد العراقية، وخاصة المقاول العراقي وخبرته العالية لأنها وراء معجزة تعبيد هذا الشارع الذي يبلغ طوله (11 كيلو متراً) بزمن قياسي لم يتجاوز شهراً واحداً، وبكلفة شبه مجانية بلغت عشرة مليارات دينار فقط، ثم زفّ لنا بشرى اعظم، وهي ان العمل جارٍ بهمة أعلى لإنجاز شارع مماثل وهو بطول (11كم) كذلك وبكلفة (14 مليار) دينار، ويربط المدينة بالطريق الخارجية، ويتميز بوجود بناية عند منتصف المسافة يمكن تأجيرها محطة لتعبئة الوقود، وسيتم افتتاحه بتاريخ 24 شباط، أي بعد اسبوعين من الان، وهذا وعد مؤكد من المقاول، وانتم مدعوون سلفاً لحضور الحفل، فضج المكان بالهتافات والقصائد والهوسات والتصفيق وهلاهل النسوان الاعلاميات، وما كادت العاصفة تهدأ حتى طلب الرجل منا بحركة شفافة من يده المباركة ان نتفضل لتناول الغداء، ولم ينسَ في الختام ان يصافحنا واحداً واحداً، مع مظروف مالي يتناسب ومكانة الاعلامي وسمعة الجهة الاعلامية التي ينتسب اليها، ولم ننسَ بدورنا تغطية الخبر تغطية واسعة بأحلى الصياغات، مركزين على تصريحات الرجل وابتسامته واخلاصه وجهوده المتميزة للنهوض بواقع مدينته...
بتاريخ 24 شباط، كنا اكثر التزاماً من الانجليز في المواعيد والالتزام بها، فقد وصلنا الى المكان قبل ساعتين على الموعد المحدد، وكان عددنا هذه المرة أكبر، وجرت الطقوس السابقة نفسها مع تصاعد روح الحماسة لدينا، وبخلاف ذلك لا جديد في المشهد الاحتفالي باستثناء سؤال (ولد) صحفي، ناكر للجميل، كافر بالنعمة، عكّر علينا فرحتنا، حيث قال للمدير (استاذ... لقد لاحظت بأن الشارع القديم الذي تمّ انجازه قبل اسبوعين قد تعرض للتآكل والتخسفات، فهل قاضيتم المقاول او قمتم بمحاسبته؟!)، ردّ عليه الرجل (في الواقع لا يتحمل المقاول أي ذنب، إذْ من المعلوم إن هناك نوعاً من البكتريا تعيش وتتكاثر في مادة الاسفلت، هي السبب الرئيس!) ولم يسكت الولد الصحفي، فقد سأل من جديد (ولكن الشوارع التي تتولى الشركات الاجنبية تعبيدها لا تتعرض للتآكل!)، تلعثم المدير، ولكن روح المرح التي يتحلى بها انقذته، حيث ردّ عليه (في الحقيقة يوجد نوعان من البكتريا، متحضرة ومتخلفة، ويبدون ان بكتريا شوارعنا من النوع الثاني!) وتعالى التصفيق للإجابة الذكية، وغادر الرجل المكان على عجل، وغادرنا نحن كذلك من غير مظاريف لأول مرة، ومن يومها لم نعد نسمح لذلك الصحفي الموتور ان يحضر معنا الى اي مؤتمر!!.
