العمارة وأحلامها

الصفحة الاخيرة 2018/11/16
...

محمد غازي الاخرس
منذ يومين أنا بمدينة العمارة زائرا مأخوذا بروحها الدافئة رغم الأمطار. جئتها في مهرجان الكميت الثقافي ليغرقني أهلها بكرم أعرفه ويحيطوني بمحبة توقعتها خصوصا أن لي فيها أصدقاء يجمعني بهم تاريخ من الأسى ناهيك عن قراء يتابعونني منذ سنين. أي والله، الأمر كما توقعته، اتصالات أربكتني ورسائل دوختني بمحبتها، كنت كتبت في صفحتي وأنا أطل على دجلتها: صباح الخير أيتها العمارة، فإذا بهذا المحب يتصل وذاك يواعدني على العشاء، قلت لهم : الاحباب هنا كثر، فلم يقتنعوا وفوجئت بثلاثة من أعزهم على قلبي يتصلون بي ويقولون: نحن في الفندق، إنزل حالا.  
الحال أنني لم أفاجأ لكنني ارتبكت وأسقط من يدي، بل شعرت وكأنني مقصر معهم، ليس الأصدقاء الثلاثة فقط بل جميع من تواصل معي في مدينة الأجداد وبضمنهم الباحث الفولكلوري الكبير جبار عبد الله الجويبراوي الذي جاء  للمهرجان وسأل عشرين شخصا عني، وإذ رأيته كدت أطير من الفرح وسارعت لأخذ سيلفي معه كطفل يجد محبوبه. قلت له : أنت لا تعرف أنك أحد أساتذتي يا مؤرخ العمارة الطيب! فرد بتواضع أطاح بي: مفارقة أن تتحول أنت استاذا لي! قال ذلك وكأنه يكشف لي عن سر تكوينه، التواضع، تكوينه الذي حدثني عنه طويلا بعد أن جلسنا في ركن صغير واستأذنته أن أكتب عنه فقال : لك هذا ولكن لا تذكر بعض الأسماء. كانت ثمة أسرار وصندوق آلام وهموم ورحلة لا مثيل لها أسرني بعض محطاتها، ولو كان بيدي لأجريت معه سلسلة لقاءات أمدها ساعات وساعات. 
نعم أيها الأحبة، العمارة عامرة الروح كما رأيتها، طيبتها تسبق كرمها، غير أن همومها تصرع أحلامها. أقول ذلك وأنا أتجول في شوارعها وأجلس في أحد مقاهيها الشعبية رفقة أصدقائي. قلت لهم: أولم يعدونا بان تكون العمارة دبي العراق والمنطقة؟ مدينة النهر والأهوار والحياة الطبيعية المبهرة، مدينة الأسماك والطيور والغناء والشعر، مدينة الطيبين والطيبات والمبدعين والمبدعات. هم وعدونا بذلك منذ العام 2003 لكنهم انتهوا بأن جعلوا العماريين أسرى الهموم اليومية التي يمكن حلها بأسهل الطرق. حين صورت إطلالتي من الفندق مثلا لاحظت أنه لا توجد أمامي سوى عمارة واحدة ترتفع في الأفق، أما بقية المباني فمجرد امتداد أفقي هو الذي اعتدناه في مدننا المسكينة منذ عقود. 
متى تبنى العمارة التي نحلم بها؟ لا أدري، متى يبتهج حسين وفلاح وصادق وحسن وكرار بمدينتهم؟ لا أدري، متى يفخر العماريون بعمارتهم والبصريون ببصرتهم والناصريون بناصريتهم؟ لا أدري. متى نغرق الهموم في نهر دجلة الواسع القلب؟ لا أحد يدري ولا أحد سيدري، طالما بقيت  الإطلالة  كما  نراها 
الآن. 
العمارة، منذ يومين وأنا اتنفسك وأنصت لقصصك، قصص الجويبراوي والمثقفون من أصدقائي، هؤلاء الذين يجلسون الآن أمامي يناقشون الروايات ويحتدمون حولها مثلما تحتدم بواطن المدينة التي ضمتهم.